فصل: تفسير الآيات رقم (37- 40)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 40‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏37‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏38‏)‏ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ‏(‏39‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

ولما قدم في هذه السورة قولهم ‏{‏لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏ وأتى فيها رداً عليهم ووعظاً لهم من الآيات البالغة في الحكمة جداً يتجاوز قوى البشر ويضمحل دونه من الخلق القدر، وكان آخر ذلك التنبيه على أن شركاءهم لا يهتدون إلا أن هداهم الهادي فضلاً عن أن يهدوا، وإقامة الدليل على أن مذاهبهم ليست مستندة إلى علم بل هى تابعة للهوى، أتبع ذلك دليلاً قطعياً في أمر القرآن من أنه لا يصح أصلاً أن يؤتى به من دون أمره سبحانه رداً لقولهم‏:‏ إنه مفترى، لأنه من وادي ما ختم به هذه الآيات من اتباعهم للظنون لأنه لا سند لهم في ذلك بل ولا شبهة أصلاً، وإنما هو مجرد هوى بل وأكثرهم عالم بالحق في أمره، فنفى ذلك بما يزيح الظنون ويدمغ الخصوم ولا يدع شبهة لمفتون، وأثبت أنه هو الآية الكبرى والحقيق بالاتباع لأنه هدى، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان‏}‏ عاطفاً له على قوله ‏{‏ما يكون لي أن أبدله‏}‏ إلى آخره، فهو حينئذ مقول القول، أي قل لهم ذاك الكلام وقل لهم ‏{‏ما كان‏}‏ أي قط بوجه من الوجوه، وعينه تعييناً لا يمكن معه لبس، فقال‏:‏ ‏{‏هذا القرآن‏}‏ أي الجامع لكل خير مع التأدية بأساليب الحكمة المعجزة لجميع الخلق ‏{‏أن يفترى‏}‏ أي أن يقع في وقت من الأوقات تعمد نسبته كذباً إلى الله من أحد من الخلق كائناً من كان؛ وعرف بتضاؤل رتبتهم دون شامخ رتبته سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الذي تقرر أنه يدبر الأمر كله، فما من شفيع إلا من بعد إذنه وما يعزب عنه شيء فسبحان المتفضل على عباده بإيضاح الحجج وإزالة الشكوك والدعاء إلى سبيل الرشاد مع غناه عنهم وقدرته عليهم؛ والافتراء‏:‏ الإخبار على القطع بالكذب، لأنه من فرى الأديم وهو قطعه بعد تفزيره‏.‏

ولما كان إتيان الأمي- الذي لم يجالس عالماً- بالأخبار والقصص الماضية على التحرير دليلاً قطعاً على صدق الآتي في ادعائه أنه لا معلم له إلا الله، عبر بأداة العناد فقال‏:‏ ‏{‏ولكن‏}‏ أي كان كوناً لا يجوز غيره ‏{‏تصديق الذي‏}‏ أي تقدم ‏{‏بين يديه‏}‏ أي قبله من الكتب، والدليل على تصادقه شاهد الوجود مع أن القوم كانوا في غاية العدواة له صلى الله عليه وسلم وكان أهل الكتابين عندهم في جزيرة العرب على غاية القرب منهم مع أنهم كانوا يتجرون إلى بلاد الشام وهم متمكنون من السؤال عن كل ما يأتي به، فلو وجدوا مغمزاً ما لقدحوا به، فدل عدم قدحهم على التصادق قطعاً‏.‏

ولما كان ذلك سلطاناً قاهراً صلى الله عليه وسلم، زاده ظهوراً بما اشتمل الكتاب الآتي به عليه من التفصيل الذي هو نهاية العلم فقال‏:‏ ‏{‏وتفصيل الكتاب‏}‏ أي الجامع المجموع فيه الحكم والأحكام وجوامع الكلام من جميع الكتب السماوية في بيان مجملاتها وإيضاح مشكلاتها، فهو ناظر إلى قوله ‏{‏أفمن يهدي إلى الحق‏}‏، فهو برهان على أنه هو الهادي وحده، فهو الحقيق بالاتباع والتفصيل بتبيين الفصل بين المعاني الملتبسة حتى تظهر كل معنى على حقه، ونظيره التقسيم، ونقضيه التخليط والتلبيس، وبيان تفصيله أنه أتى من العلوم العلمية الاعتقادية من معرفة الذات والصفات بأقسامها، والعملية التكليفية المتعلقة بالظاهر وهي علم الفقه وعلم الباطن ورياضة النفوس بما لا مزيد عليه ولا يدانيه فيه كتاب، وعلم الأخلاق كثير في القرآن مثل

‏{‏خذ العفو‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏ ‏{‏إن الله يأمر بالعدل‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 90‏]‏ وأمثالهما‏.‏

ولما كان- مع الشهادة بالصدق بتصديق ما ثبت حقيقة- معجزاً بالجمع والتفصيل لجميع العلوم الشريفة‏:‏ عقليها ونقليها إعجازاً لم يثبت لغيره، ثبت أنه مناقض للافتراء حال كونه ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ وأنه ‏{‏من رب العالمين*‏}‏ أي موجدهم ومدبر أمرهم والمحسن إليهم لأنه- مع الجمع لجميع ذلك- لا اختلاف فيه بوجه، وذلك خارج عن طوق البشر‏.‏

ولما كان هذا موضع أن يذعنوا لأن هذا القرآن ليس إلا من عند الله وبأمره قطعاً، كان كأنه قيل‏:‏ ارجعوا عن غيهم فآمنوا واستقاموا ‏{‏أم‏}‏ استمروا على ضلالهم ‏{‏يقولون‏}‏ على سبيل التجديد والاستمرار عناداً ‏{‏افتراه‏}‏ أي تعمد نسبته كذباً إلى الله، فكأنه قيل، تمادوا على عتوهم فقالوا ذلك فكانوا كالباحث عن حتفه بظلفه، لأنهم أصلوا أصلاً فاسداً لزم عليه قطعاً إمكان أن يأتوا بمثله لأنهم عرب مثله، بل منهم من قرأ وكتب وخالط العلماء واشتد اعتناءه بأنواع البلاغة من النظم والنثر والخطب وتمرنه فيها بخلافه صلى الله عليه وسلم في جميع ذلك، فلهذا أمره في جوابهم بقوله ‏{‏قل‏}‏ أي لهم يا أبلغ خلقنا وأعرفهم بمواقع الكلام لجميع أنواعه، أتى بالفاء السببية في قوله‏:‏ ‏{‏فأتوا‏}‏ أي أنتم تصديقاً لقولكم هذا الذي تبين وأنكم فيه معاندون؛ ولما كانوا قد جزموا في هذه السورة بأنه افتراه، وكان مفصلاً إلى سور كل واحدة منها لها مقصد معين يستدل فيها عليه، وتكون خاتمتها مرتبطة بفاتحتها متحدة بها، اكتفى في تحديهم بالإتيان بقطعة واحدة غير مفصلة إلى مثل سورة لكن تكون مثل جميع القرآن في الطول والبيان وانتظام العبارة والتئام المعاني فلذلك قال‏:‏ ‏{‏بسورة‏}‏ قال الرماني‏:‏ والسورة منزلة محيطة بآيات من أجل الفاتحة والخاتمة كإحاطة سور البناء، وهذا نظراً إلى أن المتحدي به سورة اصطلاحية والصواب أنها لغوية، وهي كما قال الحرالي تمام جملة من المسموع تحيط بمعنى تام بمنزلة إحاطة السور بالمدنية؛ووصفها بقوله‏:‏ ‏{‏مثله‏}‏ أي قي البلاغة وحسن النظم وصحة المعاني ومصادقة الكتب وتفصيل العلوم لأنكم مثلي في العربية وتزيدون بالكتابة ومخالطة العلماء- من غير إتيان ب «من» لما تقدم من أن المراد كونها مثل القرآن كله، ولذلك وسع لهم في الاستعانة بجميع من قدروا عليه ووصلت طاقتهم إليه ولم يقصرهم على من بحضرتهم فقال‏:‏ ‏{‏وادعوا‏}‏ أي لمعاونتكم ‏{‏من استطعتم‏}‏ أي قدرتم على طاعته ولو ببذل الجهد من الجن والإنس وغيرهم للمعاونة، وحقق أن هذا القرآن من عنده سبحانه باستثنائه في قوله‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله، ونبه على أنهم متعمدون لما نسبوه إليه- وحاشاه من تعمد الكذب- وأنهم معاندون بقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏صادقين*‏}‏ أي في أنه أتى به من عنده، لأن العاقل لا يجزم بشيء إلا إذا كان عنده منه مخرج، وذلك لا يكون إلا عن دليل ظاهر وسلطان قاهر باهر، وقد مضى في البقرة ويأتي في هود إن شاء الله تعالى ما يوضح هذا المعنى؛ والاستطاعة‏:‏ حالة تتطاوع بها الجروح والقوى للفعل لأنه مأخوذ من الطوع؛ ثم كان كأنه قيل‏:‏ فقال لهم ذلك فلم يأتوا لقومهم بشبهة توجب شكاً فضلاً عن مصدق، لأنه معجز لكونه كلاماً في أعلى طبقات البلاغة بحسن النظام والجزالة منزلاً من عند الله المحيط علماً وقدرة، فهو مشتمل من كل معنى على ما علا كل العلو عن مدان ‏{‏بل‏}‏‏.‏

وأحسن من ذلك أنه لما أقام الدليل على أن القرآن كلامه، وكان الدليل إنما من شأنه أن يقام على من عرض له غلط أو شبهة، وكان قولهم ‏{‏افتراه‏}‏ لا عن شبهة وإنما هو مجرد عناد، نبه سبحانه على ذلك وعلى أنه إنما أقام الدليل لإظهار عنادهم لا لأن عندهم شبهة في كونه حقاً بالإضراب عن قولهم فقال‏:‏ ‏{‏بل‏}‏ أي لم يقولوا ‏{‏افتراه‏}‏ عن اعتقاد منهم لذلك بل ‏{‏كذبوا‏}‏ أي أوقعوا التكذيب الذي لا تكذيب أشنع منه مسرعين في ذلك من غير أن يتفهموه مستهينين ‏{‏بما لم يحيطوا بعلمه‏}‏ اي في نظمه أو معناه من غير شبهة أصلاً بل عناداً وطغياناً ونفوراً مما يخالف دينهم وشراداً، فهو من باب «من جهل شيئاً عاداه» والإحاطة‏:‏ إرادة ما هو كالحائط حول الشيء، فإحاطة العلم بالشيء العلم به من جميع وجوهه‏.‏

ولما كان لا بد من وقوع تأويله، وهو إتيان ما فيه من الإخبار بالمغيبات على ما هي عليه، قال‏:‏ ‏{‏ولما يأتهم‏}‏ أي إلى زمن تكذيبهم ‏{‏تأويله‏}‏ أي ترجيعنا لأخباره إلى مراجعها وغاياتها حتى يعلموا أصدق هي أم كذب، فإنه معجز من جهة نظمه ومن جهة صدقه في أخباره؛ والتأويل‏:‏ المعنى الذي يؤول إليه التفسير، وهو منتهى التصريح من التضمين‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ إن فعلهم هذا لعجب، فما حملهم على التمادي فيه‏؟‏ فقيل‏:‏ تبعوا في ذلك من قبلهم لموافقتهم في سوء الطبع، قال مهدداً لهم ومسلياً له صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل تكذيبهم هذا التكذيب العظيم في الشناعة قبل تدبير المعجز ‏{‏كذب الذين‏}‏ ولما كان المكذبون بعض السالفين، أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلهم‏}‏ أي من كفار الأمم الخالية فظلموا فأهلكناهم بظلمهم؛ ولما كان التكذيب خطراً لما يثير من السرور، سبب عنه- تحذيراً منه- النظر في عاقبة أمره فقال‏:‏ ‏{‏فانظر‏}‏ أي بعينك ديارهم وبقلبك أخبارهم‏.‏

ولما كان من نظر هذا النظر وجد فيه أجل معتبر وأعلى مزدجر، وجه السؤال إليه بقوله‏:‏ ‏{‏كيف كان عاقبة‏}‏ أي آخر أمر ‏{‏الظالمين*‏}‏ أي الذين رسخت أقدامهم في وضع الأشياء في غير مواضعها حتى كذبوا من لا يجوز عليه الكذب بوجه، ومن المقطوع به أن هذا المسؤول يقول من غير تعلثم ولا تردد‏:‏ عاقبة وخيمة قاصمة ذميمة؛ والعاقبة سبب تؤدي إليه البادئة، فالذي أدى إلى إلى هلاكهم بعذاب الاستئصال ما تقدم من ظلمهم لأنفسهم وعتوهم في كفرهم‏.‏

ولما ذكر سبحانه تكذيبهم، كان ذلك ربما أيأس من إذعانهم وتصديقهم، وآذن باستئصالهم لتكمل المشابهة للأولين، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الشفقة عليهم والحرص على إيمانهم، فأتبعه تعالى بقوله بياناً لأن علمه بانقسامهم أوجب عدم استئصالهم عاطفاً على ‏{‏كذبوا‏}‏‏:‏ ‏{‏ومنهم‏}‏ أي قومك ‏{‏من يؤمن به‏}‏ أي في المستقبل ‏{‏ومنهم من لا يؤمن به‏}‏ أي القرآن أصلاً ولو رأى كل آية ‏{‏وربك‏}‏ أي المحسن إليك بالرفق بأمتك ‏{‏أعلم بالمفسدين*‏}‏ أي الذين هم عريقون في الإفساد فسيعاملهم بما يشفي صدرك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 45‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏41‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏42‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏43‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏44‏)‏ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

ولما قسمتهم هذه الآية قسمين، وتليت بذكر القسم الثاني بالواو، عرف أنه معطوف على مطوى القسم الأول، فكان كأنه قيل‏:‏ فإن صدقوك فقل‏:‏ الله ولي هدايتكم ولي مثل أجوركم بنسبتي فيها فضلاً من ربي‏:‏ ‏{‏وإن كذبوك فقل‏}‏ أي قول منصف معتمد على قادر عالم ‏{‏لي علمي‏}‏ بالإيمان والطاعة ‏{‏ولكم عملكم‏}‏ ما لأحد من ولا عليه من جزاء الآخر شيء؛ ثم صرح بالمقصود من ذلك بقوله محذراً لهم‏:‏ ‏{‏أنتم بريئون مما أعمل‏}‏ أي فإن كان خيراً لم يكن لكم منه شيء وإن كان غيره لم يكن عليكم منه شيء ‏{‏وأنا بريء مما تعملون*‏}‏ لا جناح عليّ في شيء منه لأني لا أقدر على ردكم عنه؛ والبراءة‏:‏ قطع العلقة الذي يوجب رفع المطالبة، ولا حاجة إلى ادعاء نسخ هذه الآية بآية السيف، فإنه لا منافاة بينهما، لأن هذه في رفع لحاق الإثم وهو لا ينافي الجهاد‏.‏

ولما قسمهم إلى هذين القسمين، قسم القسم الأخير إلى قسمين فقال‏:‏ ‏{‏ومنهم‏}‏ أي المكذبين ‏{‏من‏}‏ ولما كان المستمع إليه أكثر لأنهم أشهى الناس إلى تعرف حاله، وكان طريق ذلك السمع والبصر، وكان تحديق العين إليه لا يخفى، فكان أكثرهم يتركه إظهاراً لبغضه وخوفاً من إنكار من يراه عليه، وكان إلقاء السمع بغاية الجهد يمكن إخفاءه بخلاف الإبصار، عبر هنا بالافتعال، وجمع دالاً على كثرتهم نظراً إلى معنى «من» وأفرد في النظر اعتباراً للفظها ودالاً على قلة الناظر بما ذكر فقال‏:‏ ‏{‏يستمعون‏}‏ وضمن الاستماع الإصغاء ليؤدي مؤدي الفعلين، ودل على الإصغاء بصلته معلقة بحال انتزعت منه فكأنه‏:‏ قال مصغين ‏{‏إليك‏}‏ أي عند قراءة القرآن وبيانه بالسنة، ولكنهم وإن كانوا قسمين بالنسبة إلى الاستماع والنظر فهم قسم واحد بالنسبة إلى الضلال، فكان تعقيب ذلك بحشرهم بعد قصر الهداية عليه سبحانه كذكر حشرهم فيما مضى تقسيمهم إلى قسمين بعد قوله ‏{‏ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏‏.‏

ولما كان صلى الله عليه وسلم يريد- بإسماعه لهم ما أنزل الله- هدايتهم به، سبب عن استماعهم إنكار إسماعهم الإسماع المترتب عليه الهدى فقال‏:‏ ‏{‏أفأنت‏}‏ أي وحدك ‏{‏تسمع الصم‏}‏ أي في آذان قلوبهم لأنهم يستمعون إليك وقد ختم على أسماعهم فهم لا ينتفعون باستماعهم لأنهم يطلبون السمع للرد لا للفهم؛ والسمع إدراك الشيء بما يكون به مسموعاً، فكانوا بعدم انتفاعهم كأنهم هم مجانين، لأن الأصم العاقل ربما فهم بالتفرس في تحريك الشفاه وغيرها فلذا قال‏:‏ ‏{‏ولو كانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏لا يعقلون*‏}‏ أي لا يتجدد لهم عقل أصلاً فصاروا بحيث لا يمكن إسماعهم لأنه لا يمكن إلا بسماع الصوت الدال على المعنى وبفهم المعنى، والمانع من الأول الصمم، ومن الثاني عدم العقل، فصاروا شراً من البهائم لأنها وإن كانت لا تعقل فهي تسمع، والأصم‏:‏ المنسد السمع بما يمنع من إدراك الصوت ‏{‏ومنهم من ينظر‏}‏ محدقاً أو رامياً ببصره من بعيد ‏{‏إليك‏}‏ فهو من التضمين كما سبق في ‏{‏يستمعون‏}‏؛ نقل عن التفتازاني أنه قال في حاشية الكشاف‏:‏ وحقيقة التضمين أن يقصد بالفعل معناه الحقيقي مع فعل آخر يناسبه وهو كثير في كلام العرب، وذلك مع حذف حال مأخوذ من الفعل الآخر بمعونة القرينة اللفظية، ويتعين جعل الفعل المذكرو أصلاً والمذكور حاله تبعاً، لأن حذفه والدلالة عليه بصلته يدل على اعتباره في الجملة لا على زيادة القصد إليه، ومن أمثلته‏:‏ أحمد إليك الله، أي منهياً إليك حمده، ويقلب كفيه على كذا، أي نادماً عليه،

‏{‏ولا تعد عيناك عنهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 28‏]‏ أي مجاوزتين عنهم إلى غيرهم، ‏{‏ولا تأكلوا أموالهم‏}‏-ضاميها ‏{‏إلى أموالكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2‏]‏، ‏{‏الرفث- مفضين- إلى نسائكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏، ‏{‏ولا تعزموا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 235‏]‏ أي على النكاح وأنتم تنوون عقدته ‏{‏ولا يسمعون‏}‏ مصغين ‏{‏إلى الملإ الأعلى‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 8‏]‏، سمع الله- أي مستجيباً- لمن حمده، ‏{‏والله يعلم المفسد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 220‏]‏ مميزاً له- ‏{‏من المصلح‏}‏، ‏{‏والذين يؤلون‏}‏- ممتنعين ‏{‏من‏}‏ وطء ‏{‏نسائهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 226‏]‏‏.‏

ولما كان المعنى أنك يا أكرم الخلق تريد بنظر هذا الناظر إليك ان ينظر إلى ما تأتي به من باهر الآيات فيهتدي وهو غير منتفع بنظره لما جعل عليه من الغشاوة فكان كالأعمى الذي زاد على عدم بصره عدم العقل فلا بصر ولا بصيرة، قال منكراً لذلك‏:‏ ‏{‏أفأنت تهدي العمي‏}‏ أي عيوناً وقلوباً ‏{‏ولو كانوا‏}‏ أي بما جبلوا عليه ‏{‏لا يبصرون*‏}‏ أي لا يتجدد لهم بصر ولا بصيرة، فلا تمكن هدايتهم، لأن هداية الطريق الحسي لا تمكن إلا بالبصر، وهداية الطريق المعنوي لا تمكن إلا بالبصيرة؛ والنظر‏:‏ طلب الرؤية بتقليب البصر، ونظر القلب طلب العلم بالفكر؛ والعمى‏:‏ آفة تمنع الرؤية عن العين والقلب؛ والإبصار‏:‏ إدراك الشيء بما به يكون مبصراً، فكأنه قيل‏:‏ ما له فعل بهم هذا والأمر بيده‏؟‏ فقيل‏:‏ لأنه تام المُلك والمِلك وهو متفضل في جميع نعمة لا يجب عليه لأحد شيء فهو لا يسأل عما يفعل، وبنى عليه قوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ وأحسن منه أن يقال‏:‏ ولما كان التقدير‏:‏ إذا علمت ذلك فخفف عنك بعض ما أنت فيه، فإنك لا تقدر على إسماعهم ولا هدايتهم لأن الله تعالى أراد ما هم عليه منهم لاستحقاقهم ذلك لظلمهم أنفسهم، علله بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي المحيط بجميع الكمال ‏{‏لا يظلم الناس شيئاً‏}‏ وإن كان هو الذي جبلهم على الشر ‏{‏ولكن الناس‏}‏ أي لما عندهم من شدة الاضطراب والتقلب ‏{‏أنفسهم‏}‏ أي خاصة ‏{‏يظلمون*‏}‏ بحملهم لها على الشر وصرف قواهم فيه باختيارهم مع زجرهم عن ذلك وحجبهم عما جبلوا عليه وإن كان الكل بيده سبحانه ولا يكون إلا بخلقه‏.‏

ولما كان في هذه الآيات ما ذكر من أفانين جدالهم في أباطيلهم وضلالهم، وكان فعل ذلك- ممن لا يرى حشراً ولا جزاء ولا نعيماً وراء نعيم هذه الدار- فعل فارغ السر مستطيل للزمان آمن من نوازل الحدثان، حسن تعقيبه بأنهم يرون يوم الحشر من الأهوال ما يستقصرون معه مدة لبثهم في الدنيا، فقد خسروا إذن دنياهم بالنزاع، وآخرتهم بالعذاب الذي لا يستطاع، وليس له انقطاع، فقال تعالى مهدداً لهؤلاء الكفار الذين يعاندون فلا يسمعون ولا يبصرون عاطفاً على ‏{‏ويوم نحشرهم‏}‏ الأولى‏:‏ ‏{‏ويوم يحشرهم‏}‏ أي واستقصروا مدة لبثهم في الدنيا يوم الحشر لما يستقبلهم من الأهوال والزلازل الطوال، فكأنه قيل‏:‏ إلى أي غاية‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏كأن‏}‏ أي كأنهم ‏{‏لم يلبثوا‏}‏ في دنياهم، والجملة في موضع الحال من ضمير ‏{‏يحشرهم‏}‏ البارز أي مشبهين بمن لم يلبثوا ‏{‏إلا ساعة‏}‏ أي حقيرة ‏{‏من النهار‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يتعارفون بينهم‏}‏ حال ثانية، أي لم يفدهم تلك الساعة أكثر من أن عرف فيها بعضهم بعضاً ليزدادوا بذلك حسرة في ذلك اليوم بعدم القدرة على التناصر والتعاون والتظافر كما كانوا يفعلون في الدنيا‏.‏

ولما كانت حالهم هذه هي الخسارة التي ليس معها تجارة، فكان السامع متوقعاً للخبر عنها، قال متعجباً منهم موضع‏:‏ ما أخسرهم‏:‏ ‏{‏قد خسر‏}‏ أي حقاً ‏{‏الذين كذبوا‏}‏ أظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف مستهينين ‏{‏بلقاء الله‏}‏ أي الملك الأعلى بما أخذوا من الدنيا من الخسيس الفاني وتركوا مما كشف لهم عنه البعث من النعيم الشريف الباقي؛ ولما كان الذي وقع منه تكذيب مرة في الدهر قد يفيق بعد ذلك فيهتدي، قال عاطفاً على الصلة‏:‏ ‏{‏وما كانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏مهتدين*‏}‏ مشيراً إلى تسفيههم فيما يدعون البصر فيه من أمر المتجر والمعرفة بأنواع الهداية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 49‏]‏

‏{‏وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ‏(‏46‏)‏ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏47‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏48‏)‏ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

ولما كان إخبار الصادق بهلاك الأعداء مقراً لعين، وكانت مشاهدة هلاكهم أقر لها، عطف على قوله ‏{‏قد خسر‏}‏‏:‏ ‏{‏وإما نرينك‏}‏ أي إراءة عظيمة قبل وفاتك ‏{‏بعض الذي نعدهم‏}‏ أي في الدنيا بما لنا من العظمة فهو أقر لعينك ‏{‏أو نتوفينك‏}‏ قبل ذلك ‏{‏فإلينا مرجعهم‏}‏ فنريك فيما هنالك ما هو أقر لعينك وأسر لقلبك، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر أولاً الإراءة دليلاً على حذفها ثانياً، والوفاة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً؛ و«ثم» في قوله‏:‏ ‏{‏ثم الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء ‏{‏شهيد‏}‏ أي بالغ الشهادة ‏{‏على ما يفعلون*‏}‏ في الدارين- يمكن أن يكون على بابها، فتكون مشيرة إلى التراخي بين ابتداء رجوعهم بالموت وآخره بالقيامة، ليس المراد بقوله ‏{‏شهيد‏}‏ ظاهره، بل العذاب الناشئ عن الشهادة في الآخرة إلى أن الله يعاقبهم بعد مرجعهم، فيريك ما بعدهم لأنه عالم بما يفعلون‏.‏

ولما كان في هذه الآية التهديد بالعذاب إما في الدنيا أو في الآخرة غير معين له صلى الله عليه وسلم واحدةً منهما، أتبعها بما هو صالح للأمرين بالنسبة إلى كل رسول إشارة إلى أن أحوال الأمم على غير نظام فلذلك لم يجزم بتعيين واحدة من الدارين للجزاء، وجعل الأمر منوطاً بالقسط، ففي أي دار أحكم جعله فيها، فقال تعالى‏:‏ دالاً على أنه نشر ذكر الإسلام وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر من عهد آدم عليه السلام إلى آخر الدهر على وجه لم يحصل له اندراس في دهر من الدهور، فمن تركه استحق العذاب سواء كان ممن بين عيسى ومحمد عليهما السلام أم لا، فلا تغتر بما يقال من غير هذا‏:‏ ‏{‏ولكل أمة‏}‏ أي من الأمم التي خلت قبلك ‏{‏رسول‏}‏ يدعوهم إلى الله؛ ثم سبب عن إتيان رسولهم بيان القضاء فيهم فقال‏:‏ ‏{‏فإذا جاء‏}‏ أي إليهم ‏{‏رسولهم‏}‏ في الدنيا بالبينات والهدى؛ وفي الآخرة في الموقف بالإخبار بما صنعوا به في الدنيا من تكذيب أو تصديق ‏{‏قضي بينهم‏}‏ أي في جميع الأمور بما أفاده نزع الخافض على أسهل وجه من غير شك بما أفاده البناء للمفعول؛ ولما كان السياق بالترهيب أجدر، قال ‏{‏بالقسط‏}‏ أي أظهر خفياً من استحقاقهم في القضاء بالعدل والقسمة المنصفة بينهم كلهم بالسوية فأعطى كل أحد منهم مقدار ما يخصه من تعجيل العذاب وتأخيره كما فعل معك؛ولما كان ذلك لا يستلزم الدوام، قال‏:‏ ‏{‏وهم لا يظلمون*‏}‏ أي لا يتجدد لهم ظلم منه سبحانه ولا من غيره‏.‏

ولما تقدم في هذه الآيات تهديدهم بالعذاب في الدنيا أو في الآخرة، حكى سبحانه جوابهم عن ذلك عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏ فقال‏:‏ ‏{‏ويقولون‏}‏ أي هؤلاء المشركون مجددين لهذا القول مستمرين على ذلك استهزاء‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ أي بالعذاب في الدنيا أو في الآخرة، وألهبوا وهيجوا بقولهم‏:‏ ‏{‏إن كنتم‏}‏ أي أنت ومن قال بقولك ‏{‏صادقين*‏}‏ والقول كلام مضمن في ذكره بالحكاية وقد يكون كلام لا يعبر عنه فلا يكون له ذكر مضمن بالحكاية، فلا يكون قولاً لأنه إنما يكون قولاً من أجل تضمن ذكره بالحكاية- قاله الرماني، ولتضمين جعل الشيء في وعاء؛ والوعد‏:‏ خبر بما يعطي من الخير، والوعيد‏:‏ خبر بما يعطى من الشر، وقد يراد الإجمال كما هنا فيطلق الوعد على المعنيين‏:‏ وعد المحسن بالثواب والمسيء بالعقاب؛ والصدق‏:‏ الخبر عن الشيء على ما هو به؛ والكذب‏:‏ الخبر عنه على خلاف ما هو به‏.‏

ولما تضمن قولهم هذا استعجاله صلى الله عليه وسلم بما يتوعدهم به، أمره بأن يتبرأ من القدرة على شيء لم يقدره الله عليه بقوله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لقومك المستهزئين ‏{‏لا أملك لنفسي‏}‏ فضلاً عن غيري؛ ولما كان السياق للنقمة، قدم الضر منبهاً على أن نعمه أكثر من نقمة؛ وأنهم في نعمه، عليهم أن يقيدوها بالشكر خوفاً من زوالها فضلاً عن أن يتمنوه فقال‏:‏ ‏{‏ضراً ولا نفعاً‏}‏‏.‏

ولما كان من المشاهد أن كل حيوان يتصرف في نفسه وغيره ببعض ذلك قال‏:‏ ‏{‏إلا ما شاء الله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة أن أملكه من ذلك، فكأنه قيل‏:‏ فما لك لا تدعوه بأن يشاء ذلك ويقدرك عليه‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏لكل أمة أجل‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ وماذا يكون فيه‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏إذا جاء أجلهم‏}‏ هلكوا؛ ولما كان قطع رجائهم من الفسحة في الأجل من أشد عذابهم، قدم قوله‏:‏ ‏{‏فلا يستأخرون‏}‏ أي عنه ‏{‏ساعة‏}‏ ثم عطف على الجملة الشرطية بكمالها ‏{‏ولا يستقدمون*‏}‏ فلا تستعجلوه فإن الوفاء بالوعد لا بد منه‏.‏ والسين فيهما بمعنى الوجدان، أي لا يوجد لهم المعنى الذي صيغ منه الفعل مثل‏:‏ استشكل الشيء واستثقله، ويجوز كون المعنى‏:‏ لا يوجدون التأخر ولا التقدم وإن اجتهدوا في الطلب، فيكون في السين معنى الطلب والملك قوة يتمكن بها من تصريف الشيء أتم تصريف، والنفع‏:‏ إيجاب اللذة بفعلها والتسبب المؤدي إليها؛ والضر‏:‏ إيجاب الألم بفعله أو التسبب إليه؛ والأجل‏:‏ الوقت المضروب لوقوع أمر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 53‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏50‏)‏ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏51‏)‏ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏52‏)‏ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

ولما كان جل قصدهم بذلك الاستهزاء، وكان وقوعه أمراً ممكناً، وكان من شأن العاقل أن يبعد عن كل خطر ممكن، أمره صلى الله عليه وسلم بجواب آخر حذف منه واو العطف لئلا يظن أنه لا يكفي في كونه جواباً إلا بضمنه إلى ما عطف عليه فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لمن استبطأ وعيدنا بالعذاب في الدنيا أو في الأخرى، وهو لا يكون إلا بعد الأخذ في الدنيا إعلاماً بأن الذي يطلبونه ضرر لهم محض لا نفع فيه بوجه، فهو مما لا يتوجه إليه قصد عاقل ‏{‏أرءيتم‏}‏ وهي من رؤية القلب لأنها دخلت على الجملة من الاستفهام ‏{‏إن أتاكم عذابه‏}‏ في الدنيا‏.‏

ولما كان أخذ الليل أنكى وأسرع، قدمه فقال‏:‏ ‏{‏بياتاً‏}‏ أي في الليل بغتة وأنتم نائمون كما يفعل العدو؛ ولما كان الظفر ليلاً لا يستلزم الظفر نهاراً مجاهرة قال‏:‏ ‏{‏أو نهاراً‏}‏ أي مكاشفة وأنتم مستيقظون، أتستمرون على عنادكم فلا تؤمنوا‏؟‏ فكأنهم قالوا‏:‏ لا، فليجعل به ليرى، فقيل‏:‏ إنكم لا تدرون ما تطلبون‏!‏ إنه لا لمخلوق بنوع منه، ولا يجترئ على مثل هذا الكلام إلا مجرم ‏{‏ماذا‏}‏ أي ما الذي‏؟‏ ويجوز أن يكون هذا جواب الشرط ‏{‏يستعجل‏}‏ أي يطلب العجله ‏{‏منه‏}‏ أي من عذابه، وعذابه كله مكروه لا يحتمل شيء منه ‏{‏المجرمون*‏}‏ إذ سنة الله قد استمرت بأن المكذب لا يثبت إلا عند مخايله، وأما إذا برك بكلكه وأناخ بثقله فإنه يؤمن حيث لا ينفعه الإيمان ‏{‏ولن تجد لسنةِ الله تحويلاً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 43‏]‏ وهذا معنى التراخي في قوله‏:‏ ‏{‏أثُمَّ إذا ما وقع‏}‏ أي عذابه وانتفى كل ما يضاده ‏{‏آمنتم به‏}‏ وذلك أنه كانت عادتهم كمن قبلهم الاستعجال بالعذاب عند التوعد به، وكانت سنة الله قد جرت بأن المكذبين إذا أتاهم العذاب يتراخى إيمانهم بعد مجئ مقدماته وقبل اجتثاثهم بعظائم صدماته لشدة معاندتهم فيه وتوطنهم عليه كما وقع للأولين من الأمم بغياً وعتواً كقوم صالح لما تغيرت وجوههم بألوان مختلفة في اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث وأيقنوا بالهلكة وودع بعضهم بعضاً ولم يؤمنوا‏.‏ وجرت بأنهم إذا ذاقوا مس العذاب وأخذتهم فواجئه الصعاب شغلتهم دواهيه عن العناد واضطرتهم أهواله إلى سهل الانقياد، فكان في غاية الحسن وضع تقريعهم على الاستعجال عقب الوعيد، ثم وضع التراخي عن الإيمان بالعناد بعد الإشراف على الهلاك ومعاينة التلف، فكان كأنه قيل‏:‏ أخبروني على تقدير أان يأتيكم عذابه الذي لا عذاب أعظم منه- كما دل ذلك إضافته إليه- فبيتكم أو كاشفكم، ما تفعلون‏؟‏ ألا تؤمنون‏؟‏ فقالوا لا، فليعجل به ليرى، فناسب لما كان استعجالهم بعد هذا الإنذار تسفيههم على ذلك فقيل ‏{‏ماذا‏}‏ أي أي نوع منه يطلب عجلته ‏{‏المجرمون‏}‏، ولا نوع منه الإ وهو فوق الطاقة ووراء الوسع، إن هذا لمنكر من الآراء، أفبعد تراخي إيمانكم عن مخايل صدمته ومشاهدة مبادئ عظمته وشدته أوجدتم الإيمان به عند وقوعه‏؟‏ يقال لكم حين اضطرتكم فواجئه إلى الإيمان وحملتكم قوارعه على صيورة الإذعان‏:‏ ‏{‏آلآن‏}‏ تؤمنون به- أي بسببه- بعد أن أزال بطشاً قواكم وحل عزائم هممكم وأوهاكم ‏{‏وقد كنتم‏}‏ أي كوناً كأنكم مجبولون عليه ‏{‏به تستعجلون*‏}‏ أي تطلبون تعجيله طلباً عظيماً حتى كأنكم لاتطلبون عجلة شيء غيره تكذيباً وعزماً على الثبات على العناد، لو وقع فلم نقبل إيمانكم هذا منكم ولا كف عذابنا عنكم، بل صيركم كأمس الدابر‏.‏

ولما كان ما ذكر هو العذاب الدنيوي، أتبعه ما بعده إعلاماً بأنه لا يقتصر عليه في جزائهم فقال‏:‏ ‏{‏ثم قيل‏}‏ أي من أيّ قائل كان استهانة ‏{‏للذين ظلموا‏}‏ أي وبعد أزّكم في الدنيا والبرزخ بالعذاب وهزّكم بشديد العقاب قيل لكم يوم الدين بظلمكم بالآيات وبما أمرتم به فيها بوضعكم كلاًّ من ذلك في غير موضعه‏:‏ ‏{‏ذوقوا عذاب الخلد‏}‏ فالإتيان ب «ثم» إشارة إلى تراخي ذلك عن الإهلاك في الدنيا بالمكث في البرزخ أو إلى أن عذابه أدنى من عذاب يوم الدين ‏{‏هل تجزون‏}‏ بناه للمفعول لأن المخيف مطلق الجزاء؛ ولما كان الاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، وكان المعنى‏:‏ بشيء، استثنى منه فقال‏:‏ ‏{‏إلا بما كنتم‏}‏ أي بجبلاتكم ‏{‏تكسبون*‏}‏ أي في الدنيا من العزم على الاستمرار على الكفر ولو طال المدى لاتنفكون عنه بشيء من الأشياء وإن عظم، فكان جزاءكم الخلود في العذاب طبق النعل بالنعل؛ والعذاب‏:‏ الألم المستمر، وأصله الاستمرار، ومنه العذوبة لاستمرارها في الحلق؛ والبيات‏:‏ إتيان الشيء ليلاً؛ والذوق‏:‏ طلب الطعم بالفم في ابتداء الأخذ‏.‏

ولما انقضى ما اشتملت عليه الآية من التهديد وصادع الوعيد، أخبر تعالى أنهم صاروا إلى ما هو جدير بسامع ذلك من النزول عن ذلك العناد إلى مبادئ الانقياد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستنبئونك‏}‏ عطفاً على قوله «ويقولون متى هذا الوعد» أي ويطلبون منك الإنباء وهو الإخبار العظيم عن حقيقة هذا الوعد الجسيم، ويمكن أن يكون ذلك منهم على طريق الاستهزاء كالأول، فيكون التعجيب والتوبيخ فيه بعد ما مضى من الأدلة أشد ‏{‏أحق هو‏}‏ أي أثابت هذا الذي تتوعدنا به أم هو كالسحر لا حقيقية له كما تقدم أنهم قالوه ‏{‏قل‏}‏ أي في جوابهم ‏{‏إي وربي‏}‏ أي المحسن إليّ المدبر لي والمصدق لجميع ما آتي به؛ ولما كانوا منكرين، أكد قوله‏:‏ ‏{‏إنه لحق‏}‏ أي كائن ثابت لا بد من نزوله بكم‏.‏

ولما كان الشيء قد يكون حقاً، ويكون الإنسان قادراً على دفعه فلا يهوله، قال نفياً ذلك‏:‏ ‏{‏وما أنتم‏}‏ أي لمن توعدكم ‏{‏بمعجزين*‏}‏ فيما يراد بكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 57‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏54‏)‏ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏56‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

ولما أخبرهم بحقيقته، أخبرهم بما يكون منهم من الظلم أيضاً عند معياينته بالسماح ببذل جميع ما في الأرض حيث لا ينفع البذل بعد ترك المأمور به وهو من أيسر الأشياء وأحسنها فقال‏:‏ ‏{‏ولو أن لكل نفس ظلمت‏}‏ أي عند المعاينة ‏{‏ما في الأرض‏}‏ أي كلها من خزائنها ونفائسها ‏{‏لافتدت به‏}‏ أي جعلت فدية لها من العذاب لكنه ليس لهم ذلك، ولو كان من قبل منهم، فإذا وقع ما يوعدون استسلموا ‏{‏وأسروا الندامة‏}‏ أي اشتد ندمهم ولم يقدروا على الكلام ‏{‏لما رأوا العذاب‏}‏ لأنهم بهتوا لعظم ما دهمهم فكان فعلهم فعل المسر، لأنهم لم يطيقوا بكاء ولا شكاية ولا شيئاً مما يفعله الجازع؛ والاستنباء‏:‏ طلب النبأ كما أن الاستفهام طلب الفهم؛ والنبأ‏:‏ خبر عن يقين في أمر كبير؛ والحق‏:‏ عقد على المعنى على ماهو به تدعو لحكمة إليه، وكل ما بنى على هذا العقد فهو حق لأجله، والحق في الدين ما شهد به الدليل على الثقة فيما طريقه العلم، والقوة فيما طريقة غالب الأمر، وذلك فيما يحتمل أمرين أحدهما أشبه بألاصل الذي جاء به النص؛ والافتداء‏:‏ إيقاع الشيء بدل غيره لرفع المكروه، فداه فدية وأفداه وافتداه افتداء وفاداه مفاداة وفداه تفدية وتفادى منه تفادياً؛ والإسرار‏:‏ إخفاء الشيء في النفس؛ والندامة‏:‏ الحسرة على ما كان يتمنى أنه لم يكن أوقعها، وهي حال معقولة يتأسف صاحبها على ما وقع منها ويود أنه لم يكن أوقعها‏.‏

ولما اشتملت الآيات الماضيات على تحتم إنجاز الوعد والعدل في الحكم، وختمت بقوه‏:‏ ‏{‏وقضي‏}‏ أي وأوقع القضاء على أيسر وجه وأسهله؛ ولما استغرق القضاء جميع وقائعهم‏.‏ دل بنزع الجار فقال‏:‏ ‏{‏بينهم‏}‏ أي الظالمين والمظلومين والظالمين والأظلمين ‏{‏بالقسط‏}‏ أي العدل؛ ولما كان وقوع ذلك لا ينفي وقوع الظلم في وقت آخر قال‏:‏ ‏{‏وهم‏}‏ أي والحال أنهم ‏{‏لا يظلمون*‏}‏ أي لا يقع فيهم ظلم من أحد أصلاً كائناً من كان في وقت ما‏.‏

ولما كان السبب الحامل لملوك الدنيا على الكذب والجور والظلم العجز أو طلب التزيد في الملك، أشار إلى تنزهه عن ذلك بقوله مؤكداً سوقاً لهم مساق المنكر لأن فعلهم في عبادة الأصنام فعل من ينكر مضمون الكلام‏:‏ ‏{‏ألا إن لله‏}‏ أي الملك الأعظم وحده ‏{‏ما في السماوات‏}‏ بدأ بها لعلوها معنى وحساً وعظمتها؛ ولما كان المقام للغنى عن الظلم لم يحوج الحال إلى تأكيد بإعادة النافي فقال‏:‏ ‏{‏والأرض‏}‏ أي من جوهر وعرض صامت وناطق، فلا شيء خارج عن ملك يحوجه إلى ظلم أو إخلاف وعد لحيازته، والحاصل أنه لا يظلم إلا ناقص الملك وأما من له الملك كله فهو الحكم العدل‏:‏ لأن جميع الأشياء بالنسبة إليه على حد سواء، ولا يخلف الوعد إلا ناقص القدرة وأما من له كل شيء ولا يخرج عن قبضته شيء فهو المحق في الوعد العدل في الحكم، وفي الآية زيادة تحسير وتنديم للنفس الظالمة حيث أخبرت بأن ما تود أن تفتدي به ليس لها منه شيء ولا تقدر على التوصل إليه، ولو قدرت ما قبل منها، وإنما هو لمن رضي منها بالقليل منه فضلاً منه عليها على ما أمر به على لسان رسله، وعلى هذا فيجوز أن يكون التقدير‏:‏ لو أن لها ذلك لافتدت به، لكنه ليس لها بل لله؛ فلما ثبت بذلك حكمه بالعدل وتنزهه عن إخلاف الوعد‏.‏

صرح بمضمون ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم‏:‏ ‏{‏ألا إن وعد الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏حق‏}‏ لأنه تام القدرة والغنى، فلا حامل له على الإخلاف ‏{‏ولكن أكثرهم‏}‏ أي الذين تدعوهم وهم يدعون دقة الأفهام وسعة العقول ‏{‏لا يعلمون*‏}‏ أي لا علم لهم فهم لا يتدبرون ما نصبنا من الأدلة فلا ينقادون لما أمرنا به من الشريعة فهم باقون على الجهل معدودون مع البهائم؛ و‏{‏ألا‏}‏ مركبة من همزة الاستفهام و«لا» وكانت تقريراً وتذكيراً فصارت تنبيهاً، وكسرت إن بعدها لأنها استئنافيه ينبه بها على معنى يبتدأ به ولذا يقع بعدها الأمر والدعاء بخلاف «لو» و«إلا» للاستقبال فلم يجز بعدها إلا كسر «إن» «أما» قد تكون بمعنى «حقاً» في قولهم‏:‏ أما إنه منطلق، وهي للحال فجاز في «أن» بعدها الوجهان- ذكره الرماني؛ والسماوات طبقات مرفوعه أولها سقف مزين بالكواكب‏.‏ وهي من سما بمعنى علا‏.‏

ولما تقرر أنه لا شيء خارج عن ملكه، وأنه تام القدرة لأنه لا منجي من عذابه، شامل العلم لقضائه بالعدل، صادق الوعد لأنه لا حامل له على غيره، وثبت تفرده بأنه يحي ويميت؛ ثبت أنه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء، فثبت أنه لا يكون الرد إلا إليه فنبه على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏يحيي‏}‏ أي كما أنتم به مقرون ‏{‏ويميت‏}‏ كما أنتم له مشاهدون ‏{‏وإليه‏}‏ أي لا إلى غيره ‏{‏ترجعون*‏}‏ لأنه وعد بذلك في قوله‏:‏ ‏{‏إليه مرجعكم جميعاً وعد الله حقاً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 4‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏فإلينا مرجعهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 46‏]‏ وفي قوله ‏{‏إي وربي إنه لحق‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 53‏]‏ وغير ذلك ولا مانع له منه؛ والحياة معنى يوجب صحة العلم والقدرة ويضاد الموت، وهو يحل سائر أجزاء الحيوان فيكون بجميعه حياً واحداً، والحي هو الذي يصح أن يكون قادراً، والقادر هو الذي يصح أن يذم ويحمد بما فعل، والموت معنى يضاد الحياة على البنية الحيوانية، وليس كذلك الجمادية‏.‏

ولما ثبت أن ذلك كله حق مباين للسحر الذي مبناه على التخييل، أقبل على الذين تقدم الإخبار عنهم في أول السورة في قوله‏:‏ أكان للناس عجباً أنهم قالوا إنه سحر، فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ أي الذين قالوا‏:‏ إن وعدنا والإخبار به سحر؛ ولما كان بين الأرواح والأبدان حب غريزي بالتعلق، والتذ الروح لذلك بمشتهيات هذه الحياة الدنيا بما انطبع فيه بمظاهر الحس فلم يأته نور العقل حتى تعود النقائص بقوة التعلق فحدثت له أخلاق ذميمة هي أمراض روحانية، فأرسل ربه الذي أوجده ودبره وأحسن إليه طبيباً حاذقاً هو الرسول صلى الله عليه وسلم لعلاج هذه الأمراض‏.‏

وأنزل كتابه العزيز لوصف الأدوية، فكان أحكم الطب منع المريض عن أسباب المرض، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قد جاءتكم موعظة‏}‏ أي زاجر عظيم عن التخلي عن كل ما يشغل القلب عن الله من المحظورات وغيرها من كل ما لا ينبغي، وذلك هو الشريعة‏.‏

ولما كان تناول المؤذي شديد الخطر، وهو لذيذ إلى النفس بينهما من ملاءمة النقص، وكان الانكفاف عنه أشق شيء عليها، رغبها في القبول بقوله‏:‏ ‏{‏من ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم المدبر لمصالحكم بهذا القرآن؛ ولما كان أليق ما يعمل بعد الحمية تعاطي الدواء المزيل للأخلاط الفاسدة من الباطن، قال‏:‏ ‏{‏وشفاء‏}‏ أي عظيم جداً ‏{‏لما في الصدور‏}‏ من أدواء الجهل، وذلك الشفاء يحصل بتطهير الباطن بعد التخلي عن الأخلاق الذميمة بالتحلي بالصفات الحميدة ليصير الباطن سالماً عن العقائد الفاسدة والأخلاق الناقصة كما سلم البدن من الأفعال الدنية، وهذا هو الطريق‏.‏

ولما كانت الروح إذا انصقلت مرآتها فصارت قابلة لتجلي الأنوار عليها بفيض البروق الإلهية والنفخات القدسية والمواهب الملكوتية لأنها دائمة اللمعان كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه‏:‏ «إن لربكم أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا له» الحديث‏.‏ وليس المانع من نزولها في كل قلب إلا عدم القابلية من بعضها لتراكم الظلمات فيها من صداء المخالفة ودين الإعراض والغفلة، فيكون بذلك كالمرايا الصديئة لا تقبل انطباع الصور بها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهدى‏}‏ إلى الحق لأنه نور عظيم يقود صاحبه- ولابد- إلى الطريق الأقوم، وهذا للصديقين وهو الحقيقة‏.‏

ولما كان هذا النور إذا زاد عظمة وانتشر إشراقه يفيض- بعد الوصول إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية- على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام العالم فينير كل قابل له مقبل عليه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ورحمة‏}‏ أي إكرام عظيم بالإمامية بالغ في الكمال والإشراق إلى حد لا مزيد عليه، وهذا للأنبياء عليهم السلام؛ ولما كان لا ينتفع بأنوارهم إلا من توجه إليهم، ثم إن الانتفاع بهم يتفاوت بتفاوت درجات التوجه إليهم والإقبال عليهم، قال‏:‏ ‏{‏للمؤمنين*‏}‏ الذين اتبعوه وهم راسخون في التوجه إلى المرشدين والاستسلام لهم فكان ذلك سبباً لنجاتهم- أشار إلى هذا الإمام وقال‏:‏ فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الكلمات الأربع القرآنية على وجه لا يمكن تأخير شيء منها عن موضعه ولا تقديمه، وهذا بخلاف ما نسبوه إليه صلى الله عليه وسلم من السحر فإنه داء كله وضلال يجر إلى الشقاء، والموعظة‏:‏ إبانة تدعو إلى الصلاح بطريق الرغبة والرهبة، والوعظ ما دعا إلى الخشوع والنسك وصرف عن الفسوق والإثم؛ والشفاء‏:‏ إزالة الداء، وداء الجهل أضر من داء البدن وعلاجه أعسر وأطباؤه أقل، والشفاء منه أجل؛ والصدر‏:‏ موضع القلب، وهو أجل موضع في الحي لشرف القلب؛ والهدى‏:‏ بيان عن معنى يؤدي إلى الحق، وهو دلالة تؤدي إلى المعرفة؛ والرحمة‏:‏ نعمة على المحتاج‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 60‏]‏

‏{‏قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏58‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ‏(‏59‏)‏ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

ولما ثبت ذلك، حثهم عليه لبعده عن السحر بثباته وعدم القدرة على زلزلته فضلاً عن إزالته وبأن شفاء وموعظة وهدى ورحمة فهو جامع لمراتب القرب الإلهي كلها، وزهدهم فيما هم عليه مقبلون من الحطام‏:‏ لمشاركته للسحر في سرعة التحول والتبدل بالفناء والاضمحلال فهو أهل للزهد فيه والإعراض عنه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل بفضل الله‏}‏ الآية، وحسن كل الحسن تعقيب ذلك لقوله‏:‏ ‏{‏هو يحيي ويميت‏}‏ لما ذكر من سرعة الرحيل عنه، ولأن القرآن محيي لميت الجهل، من أقبل عليه أفاده العلم والحكمة، فكان للقلب كالحياة للجسد، ومن أعرض عنه صار في ضلال وخبط فوصل إلى الهلاك الدائم، فكان إعراضه عنه مميتاً له، وجعل أبو حيان متعلق الباء في بفضل محذوفاً تقديره‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ ليفرحوا ‏{‏بفضل الله‏}‏ أي الملك الأعلى ‏{‏وبرحمته‏}‏ ثم عطف قصر الفرح على ذلك ‏{‏فبذلك‏}‏ أي الأمر العظيم جداً وحده إن فرحوا يوماً ما بشيء ‏{‏فليفرحوا‏}‏ فهما جملتان وقال‏:‏ إن ذلك أظهر، وفائدة الثانية قصر الفرح على ذلك دون ما يسرون به من الحطام فإن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية‏.‏ ثم صرح بسبب الفرح فقال‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي المحدث عنه من الفضل والرحمة ‏{‏خير مما يجمعون*‏}‏ أي من حطام الدنيا وإن كان أشرف ما فيها من المتاع دائبين فيه على تعاقب الأوقات، والعاقل يختار لتعبه الأفضل؛ والفضل‏:‏ الزيادة في النعمة؛ والفرح‏:‏ لذة في القلب بنيل المشتهى‏.‏

ولما وصف القرآن العظيم بالشفاء وما معه المقتضي لاستقامة المناهج وسداد الشرائع ووضوح المذاهب، وأشار إلى أن العاقل ينبغي له أن يخصه بالفرح لبقاء آثاره وما يدعو إليه وزهده فيما يجمعون لفنائه ولأنه يدعو إلى رذائل الأخلاق فيحط من أوج المعالي، أشار إلى أنهم كما خبطوا في الفرح فخصوه بما يفني معرضين عما يبقى فكذلك خبطوا في طريق الجمع فوعدوها على أنفسهم بأن حرموا بعض ما أحله، فمنعوا أنفسهم ما هم به فرحون دون أمر من الله تعالى فنقصوا بذلك حظهم في الدنيا بهذا المنع وفي الآخرة بكذبهم على ربهم في تحريمه حيث جعلوه شرعاً مرضياً وهو في غاية الفساد والبعد عن الصواب والقصور عن مراقي السداد فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لهؤلاء الذين يستهزئون بك استهزاء قاضياً عليهم بأنهم لا عقول لهم مستهزئاً بهم وموبخاً لهم توبيخاً هو في أحكم مواضعه، وساقه على طريق السؤال بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب أصلاً بغير الإقرار بالافتراء فقال‏:‏ ‏{‏أرءيتم‏}‏ أي أخبروني، وعبر عن الخلق بالإنزال تنبيهاً على أنه شيء لا يمكن ادعاءه لأصنامهم لنزول أسبابه من موضع لا تعلق لهم به بوجه فقال‏:‏ ‏{‏ما أنزل الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال التي منها الغنى المطلق ‏{‏لكم‏}‏ أي خاصاً بكم ‏{‏من رزق‏}‏ أي أيّ رزق كان ‏{‏فجعلتم منه‏}‏ أي ذلك الرزق الذي خصكم به ‏{‏حراماً وحلالاً‏}‏ على النحو الذي تقدم في الأنعام وغيرها قصته وبيان فساده على أنه جلي الفساد ظاهر العوج؛ ثم ابتدأ أمراً آخر تأكيداً للإنكار عليهم فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي من أذن لكم في ذلك‏؟‏ ‏{‏الله‏}‏ أي الملك الأعلى ‏{‏أذن لكم‏}‏ فتوضحوا المستند به ‏{‏أم‏}‏ لم يأذن لكم فيه مع نسبتكم إياه إليه لأنكم فصلتموه إلى حرام وحلال ولا محلل ومحرم إلا الله، فأنتم ‏{‏على الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء عظمة وعلماً ‏{‏تفترون*‏}‏ مع نسبتكم الافتراء إلي في هذا القرآن الذي أعجز الأفكار والشرع الذي بهر العقول وادعائكم أنكم أبعد الناس عن مطلق الكذب وأطهرهم ذيولاً منه، وتقديم الجار للإشارة إلى زيادة التشنيع عليهم من حيث إنهم أشد الناس تبرؤاً من الكذب وقد خصوا الله- على تقدير التسليم لهم- بأن تعمدوا الكذب عليه‏.‏

ولما كان قد مضى من أدلة المعاد ما صيره كالشمس، وكان افتراءهم قد ثبت بعدم قدرتهم على مستند بإذن الله لهم في ذلك، قال مشيراً إلى أن القيامة مما هو معلوم لا يسوغ إنكاره‏:‏ ‏{‏وما ظن الذين يفترون‏}‏ أي يتعمدون ‏{‏على الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏الكذب‏}‏ أي أنه نازل بهم ‏{‏يوم القيامة‏}‏ أي هب أنكم لم تستحيوا منه ولم تخافوا عواقبه في الدنيا فما تظنون أنه يكون ذلك اليوم‏؟‏ أتظنون أنه لا يحاسبكم فيكون حينئذ قد فعل ما لا يفعله رب مع مربوبه‏.‏

ولما كان تعالى يعاملهم بالحلم وهم يتمادون في هذا العقوق، قال‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏لذو فضل‏}‏ أي عظيم ‏{‏على الناس‏}‏ أي بنعم منها إنزال الكتب مفصلاً فيها ما يرضاه وما يسخطه وإرسال الرسل عليهم السلام لبيانها بما يحتمله عقول الخلق منها، ومنها طول إمهالهم على سوء أعمالهم فكان شكره واجباً عليهم ‏{‏ولكن أكثرهم‏}‏ أي الناس لاضطراب ضمائرهم ‏{‏لا يشكرون‏}‏ أي لا يتجدد منهم شكر فهم لا يتبعون رسله ولا كتبه، فهم يخبطون خبط عشواء فيفعلون ما يغضبه سبحانه؛ والتحريم‏:‏ عقد معنى النهي عن الفعل؛ والتحليل‏:‏ حل معنى النهي بالإذن؛ والشكر‏:‏ حق يجب بالنعمة من الاعتراف به والقيام فيما تدعو إليه على قدرها؛ وافتراء الكذب‏:‏ تزويره وتنميقه فهو أفحش من مطلق الكذب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 63‏]‏

‏{‏وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏61‏)‏ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏62‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

ولما وصف القرآن بما وصفه به من الشفاء وما معه بعد إقامة الدليل على إعجازه، وأشار إلى أن ما تدينوا به في غاية الخبط وأنه مع كونه كذباً يقدر كل واحد على تغييره بأحسن منه لكونه غير مبني على الحكمة، وختم ذلك بتهديدهم على افتراء الكذب في شرع ما لم يأذن به مع ادعائهم أن القرآن مفترى وهم عاجزون عن معارضته، وبأنهم لم يشكروه على نعمه التي أجلّها تخصيصهم بهذا الذكر الحكيم والشرع القويم، وكان قد أكثر في ذلك كله من الأمر له صلى الله عليه وسلم بمحاجتهم ‏{‏قل لا أملك لنفسي‏}‏، ‏{‏قل أرأيتم إن أتاكم عذابه‏}‏، ‏{‏قل إي وربي إنه لحق‏}‏، ‏{‏قل بفضل الله‏}‏- الآية، ‏{‏قل أرأيتم ما أنزل الله لكم‏}‏، ‏{‏قل الله أذن لكم‏}‏، قال تعالى ناظراً إلى قوله‏:‏ ‏{‏وما كان هذا القرآن أن يفترى‏}‏ الآية، تسلية له صلى الله عليه وسلم وتقوية لهمته وزيادة في تهديدهم عطفاً على ما تقديره‏:‏ فقد أنزلت إليهم على لسانك ما هو شرف لهم ونعمة عليهم وهو في غاية البعد عن مطلق الكذب فإن كل شيء منه في أحكم مواضعه وأحسنها لا يتطرق إليه الباطل بوجه وهم يقابلون نعمته بالكفر‏:‏ ‏{‏وما تكون‏}‏ أنت ‏{‏في شأن‏}‏ أي أيّ شأن كان ‏{‏وما تتلوا منه‏}‏ أي من القرآن المحدث عنه في جميع هذه السورة، الذي تقدم أنهم كذبوا به من غير شبهة لهم ‏{‏من قرآن‏}‏ أي قليل أو كثير ‏{‏ولا تعملون‏}‏ أي كلكم طائعكم وعاصيكم، وأغرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من عمل‏}‏ صغير أو كبير ‏{‏إلا كنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏عليكم شهوداً‏}‏ أي عاملين بإحاطة علمنا ووكالة جنودنا عمل الشاهد ‏{‏إذ تفيضون فيه‏}‏ الآية إيذاناً بأنك بعيني في جميع هذه المراجعات وغيرها من شؤونك وأنا العالم بتدبيرك والقادر على نصرتك، وهي كلها من كتابي الذي تتضاءل القوى دونه وتقف الأفكار عن مجاراته لأنه حكيم لكونه من عندي فجل عن مطلق المعارضة لفظاً أو معنى فضلاً عن التغيير فضلاً عن الإتيان بما هو مثله فكيف بما هو أحسن منه، لاستقامة أمره وتناسب أحكامه كونها شفاء وهدى ورحمة، وما كان كذلك فهو من عندي قطعاً وبإذني جزماً لأني عالم بالإفاضة فيه والانفصال عنه وجميع الأمور الواقعة منك ومنهم ومن غيرهم‏.‏

ولما كان ربما ظن ظان من إفهام ‏{‏كنا‏}‏ و‏{‏شهوداً‏}‏ للجنود أنه سبحانه محتاج إليهم، نفى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي والحال أنه ما ‏{‏يعزب‏}‏ أي يغيب ويخفى ‏{‏عن ربك‏}‏ أي المربي لكل مخلوق بعام أفضاله ولك بخاص نعمه وأشرف نواله، وأغرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من مثقال ذرة‏}‏ أي وزن نملة صغيرة جداً وموضع وزنها وزمانه؛ ولما كان «في» بمزون أهل الأرض كان تقديمها أولى فقال‏:‏ ‏{‏في الأرض‏}‏ ولما لم يدع السياق إلى الجمع- كما سيأتي في سبأ- قال اكتفاء بالمفرد الدال على الجنس‏:‏ ‏{‏ولا في السماء‏}‏ أي ما علا عن الأرض كائناً ما كان‏.‏

ولما كان ربما أدى الجمود بعض الأغبياء إلى أن يحمل المثقال على حقيقته ويجهل أن المراد به المبالغة، قال عاطفاً على الجملة من أولها وهو على الابتداء سواء رفعنا الراءين على قراءة حمزة ويعقوب أو نصبناهما عند الباقين‏:‏ ‏{‏ولا أصغر من ذلك‏}‏ أي من مثقال الذرة ‏{‏ولا أكبر‏}‏ ولما أتى بهذا الابتداء الشامل الحاصر، أخبر عنه بقوله‏:‏ ‏{‏إلا‏}‏ أي لا شيء من ذلك إلا موجود ‏{‏في كتاب‏}‏ أي جامع ‏{‏مبين*‏}‏ أي ظاهر في نفسه مظهر لكل ما فيه، وسيأتي في سبأ ما يتم به هذا المكان، وفي ذلك تهديداً لهم وتثبيت له صلى الله عليه وسلم، ولاح بهذا أن ما بعد ‏{‏إلا‏}‏ حال من الفاعل، أي ما يفعل شيئاً إلا وأنت بأعيننا فثبت أن القرآن بعلمه، فلو افتراه أحد عليه لأمكن منه؛ والإفاضة‏:‏ الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه وهو الانبساط في العمل أخذاً من فيض الإناء إذا انصب ما فيه من جوانبه، وأفضتم‏:‏ تفرقتم كتفرق الماء الذي يتصبب من الإناء؛ والعزوب‏:‏ ذهاب المعنى عن العلم، وضده الحضور؛ والذر‏:‏ صغار النمل وهو خفيف الوزن جداً، ومثقاله‏:‏ وزنه‏.‏

ولما تقدم أنه سبحانه شامل العلم، وعلم- من وضع الأحوال ما لا يتسع ومن لا تسع مجرد أسمائهم الأرض في كتاب مبين أي مهما كشف منه وجد من غير خفاء ولا احتياج إلى تفتيش- أنه كامل القدرة بعد أن تقدم أنهم فريقان‏:‏ صادق في أمره، ومفتر عليه، وأنه متفضل على الناس بعدم المعاجلة والتأخير إلى القيامة، وخوّف المفتري عواقب أمره عاجلاً وآجلاً، ورجىّ المطيع، كان موضع أن يقال‏:‏ ليت شعري ماذا يكون تفصيل حال الفريقين في الدارين على الجزم‏؟‏ فأجيب بأن الأولياء فائزون والأعداء هالكون ليشمر كل مطيع عن ساعد جده ويبذل غاية جهده في لحاق المخلصين وتحامي جانب المفترين بقوله تعالى مؤكداً لاعتقادهم أنهم يهلكون حزب الله وإنكارهم غاية الإنكار أن يفوتوهم‏:‏ ‏{‏ألا إن أولياء الله‏}‏ أي الذين يتولون بالطاعة من لا شيء أعز منه ولا أعظم ويتولاهم ‏{‏لا خوف‏}‏ أي ثابت عال ‏{‏عليهم‏}‏ أي من شيء يستقبلهم ‏{‏ولا هم‏}‏ أي بضمائرهم ‏{‏يحزنون‏}‏ أي يتجدد لهم حزن على فائت لأن قلوبهم معلقة بالله سبحانه فلا يؤثر فيهم لذلك خوف ولا حزن أثراً يقطع قلوبهم كما يعرض لغيرهم، وفسرهم بقوله‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي أوجدوا هذا الوصف المصحح للأعمال وبه كمال القوة العلمية ‏{‏وكانوا‏}‏ أي كوناً صار لهم جبلة وخلقاً ‏{‏يتقون‏}‏ أي يوجدون التقوى، وهي كمال القوة العملية في الإيمان والأعمال ويجددونها فإنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره؛ وانتهى الجواب بقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين يفترون على الله الكذب‏}‏- الآية، وهذا الذي فسر الله به الأولياء لا مزيد على حسنه، وعن علي رضي الله عنه «هم قوم صفر الوجوه من السهر عمش العيون من العبر خمص البطون من الخوى» وقيل‏:‏ الولي من لا يرائي ولا ينافق، وما أقل صديق من كان هذا خلقه، وصح عن الإمامين‏:‏ أبي حنيفة والتبيان أن كلاًّ منهما قال‏:‏ إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي‏.‏

وهذا في العالم العامل بعلمه كما بينته عند قوله في سورة الزمر ‏{‏قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 67‏]‏

‏{‏لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏64‏)‏ وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏65‏)‏ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏66‏)‏ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

ولما نفىعنهم الخوف والحزن، زادهم فقال مبيناً لتوليه لهم بعد أن شرح توليهم له‏:‏ ‏{‏لهم‏}‏ أي خاصة ‏{‏البشرى‏}‏ أي الكاملة ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ أي بأن دينهم يظهر وحالهم يشتهر وعدوهم يخذل وعمله لا يقبل وبالرؤية الصالحة ‏{‏وفي الآخرة‏}‏ بأنهم هم السعداء وأعداؤهم الأشقياء وتتلقاهم الملائكة ‏{‏هذا يومكم الذي كنتم توعدون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏‏.‏ وما كان الغالب على أحوال أهل الله في الدنيا الضيق ولا سيما في أول الإسلام، كان السامع لذلك بمعرض أن يقول‏:‏ يا ليت شعري هل يتم هذا السرور‏!‏ فقيل‏:‏ نعم، وأكد بنفي الجنس لأن الجبابرة ينكرون ذلك لهم لما يرون من أن عزهم من وراء ذل ليس فيه سوء ما لباطل المتكبرين من السورة والإرجاف والصولة‏:‏ ‏{‏لا تبديل‏}‏ أي بوجه من الوجوه ‏{‏لكلمات الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة بكل شيء علماً وقدرة؛ وقوله-‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر العالي الرتبة ‏{‏هو‏}‏ أي خاصة ‏{‏الفوز العظيم‏}‏ في موضع البيان والكشف لمضمون هذه البشرى؛ والخوف‏:‏ انزعاج القلب بما يتوقع من المكروه، ونظيره الجزع والفزع، ونقيضه الأمن؛ والحزن‏:‏ انزعاجه وغلظ همه مما وقع من المكروه، من الحزن للأرض الغليظة، ونقيضه السرور، وهما يتعاقبان على حال الحي الذاكر للمحبوب؛ والبشرى‏:‏ الخبر الأول بما يظهر سروره في بشرة الوجه‏.‏

ولما تقدمت البشرى بنفي الخوف والحزن معاً عن الأولياء، علم أن المعنى‏:‏ هذه البشرى للأولياء وأنت رأسهم فلا تخف، فعطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولا يحزنك قولهم‏}‏ أي في نحو قولهم‏:‏ إنهم يغلبون، وفي تكذيبك والاستهزاء بك وتهديدك، فإن ذلك قول يراد به تبديل كلمات الله الغني القدير، وهيهات ذلك من الضعيف الفقير فكيف بالعلي الكبير‏!‏ وإلى هذا يرشد التعليل لهذا النهي بقوله‏:‏ ‏{‏إن العزة‏}‏ أي الغلبة والقهر وتمام العظمة ‏{‏لله‏}‏ أي الملك الأعلى حال كونها ‏{‏جميعاً‏}‏ أي فسيذلهم ويعز دينه، والمراد بذلك التسلية عن قولهم الذي يؤذونه به‏.‏

ولما بدئت الآية بقولهم، ختمها بالسمع له والعلم به وقصرهما عليه لأن صفات كل موصوف متلاشية بالنسبة إلى صفاته فقال‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏السميع‏}‏ أي البليغ السميع لأقوالهم ‏{‏العليم‏}‏ أي المحيط العلم بضمائرهم وجميع أحوالهم فهو البالغ القدرة على كل شيء فيجازيهم بما تقتضيه، وهو تعليل لتفرده بالعزة لأنه تفرد بهذين الوصفين فانتفيا عن غيره، ومن انتفيا عنه كان دون الحيوانات العجم فأنى يكون له عزة‏!‏ والعزة‏:‏ قدرة على كل جبار بما لا يرام ولا يضام، والمعنى أنه يعزك على من ناواك، والنهي في ‏{‏ولا يحزنك‏}‏ في اللفظ للقول وفي المعنى للسبب المؤدي إلى التأذي بالقول، وكسرت «إن» هاهنا للاستئناف بالتذكر بما ينفي الحزن، لا لأنها بعد القول لأنها ليست حكاية عنهم، وقرئ بفتحها على معنى «لأن»‏.‏

ولما ختمت بعموم سمعه وعلمه بعد قصر العزة عليه، كان كأنه قيل‏:‏ إن العزة لا تتم إلاّ بالقدرة فأثبت اختصاصه بالملك الذي لا يكون إلاّ بها، فقال مؤكداً لما يستلزمه إشراكهم من الإنكار لمضمون هذا الكلام‏:‏ ‏{‏ألآ إن لله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة؛ ولما كان بعض الناس قد أشركوا ببعض النجوم، جمع فقال معبراً بأداة العقلاء تصريحاً بما أفهمه التعبير سابقاً بأداة غيرهم‏:‏ ‏{‏من في السماوات‏}‏ أي كلها، وابتدأ بها لأن ملكها يدل على ملك الأرض بطريق الأولى، ثم صرح بها في قوله مؤكداً لما تقدم‏:‏ ‏{‏ومن في الأرض‏}‏ أي كلهم عبيده ملوكهم ومن دونهم، نافذ فيهم تصريفه، منقادون لما يريده، وهو أيضاً تعليل ثان لقوله ‏{‏ولا يحزنك قولهم‏}‏ أو للتفرد بالعزة، وعبر ب «من» التي للعقلاء والمراد كل ما في الكون لأن السياق لنفي العزة عن غيره، والعقلاء بها أجدر، فنفيها عنهم نفي عن غيرهم بطريق الأولى، ثم غلبوا لشرفهم على غيرهم، ولذا تطلق «ما» التي هي لغيرهم في سياق هو بها أحق ثم يراد بها العموم تغليباً للأكثر الذي لا يعقل على الأقل؛ ثم نفى أن يكون له في ذلك شريك بقوله عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فما له شريك مما ادعاه المشركون منهما أو من إحداهما‏:‏ ‏{‏وما يتبع‏}‏ أي بغاية الجهد ‏{‏الذين يدعون‏}‏ أي على سبيل العبادة ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الذي له العظمة كلها ‏{‏شركآء‏}‏ على الحقيقة؛ ويجوز أن تكون «ما» موصولة تحقيراً للشركاء بالتعبير بأداة ما لا يعقل ومعطوفه على «من» ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏يتبعون‏}‏ في ذلك الذي هو أصل أصول الدين يجب فيه القطع وهو دعاءهم له شركاء ‏{‏إلاّ الظن‏}‏ أي المخطئ على أنه لو كان صواباً كانوا مخطئين فيه حيث قنعوا في الأصل بالظن، ثم نبه على الخطأ بقوله‏:‏ ‏{‏وإن‏}‏ أي وما ‏{‏هم إلاّ يخرصون‏}‏ أي يحزرون ذلك ويقولون ما لا حقيقة له أصلاً؛ والاتباع‏:‏ طلب اللحاق بالأول على تصرف الحال، فهؤلاء اتبعوا الداعي إلى عبادة الوثن وتصرفوا معه فيما دعا إليه، وظنهم في عبادتها إنما هو بشبيهة ضعيفة كقصد زيادة التعظيم لله وتعظيم تقليد الأسلاف، ويجوز أن يكون ‏{‏شركاء‏}‏ مفعولاً تنازعه ‏{‏يتبع‏}‏ و‏{‏يدعون‏}‏؛ ثم أثبت سبحانه اختصاصه بشيء جامع للعلم والقدرة تأكيداً لاختصاصه بالعزة وتفرده بالوحدانية، وأن من أشرك به خارص لا علم له بوجه لكثرة الدلائل على وحدانيته ووضوحها فقال‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏الذي جعل‏}‏ أي بسبب دوران الأفلاك الذي أتقنه ‏{‏لكم‏}‏ أي نعمة منه ‏{‏الليل‏}‏ أي مظلماً ‏{‏لتسكنوا فيه‏}‏ راحة لكم ودلالة على قدرته سبحانه على الإيجاد والإعدام وأُنساً للمحبين لربهم ‏{‏والنهار‏}‏ وأعار السبب وصف المسبب فقال‏:‏ ‏{‏مبصراً‏}‏ أي لتنتشروا فيه، حذف وصف الليل وذكرت علته عكس ما فعل بالنهار ليدل ما ثبت على ما حذف، فالآية من الاحتباك‏.‏

ولما كانت هذه الآيات من الظهور بحيث لا يحتاج إلى أكثر من سماعها، قال‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم ‏{‏لآيات لقوم‏}‏ أي لهم قوة المحاولة على ما يريدونه ‏{‏يسمعون‏}‏ أي لهم سمع صحيح، وفي ذلك أدلة واضحات على أنه مختص بالعزة فلا شريك له، لأن الشريك لا بد وأن يقاسم شريكه شيئاً من الأفعال أو الأحوال أو الملك، وأما عند انتفاء جميع ذلك فانتفاء الشركة أوضح من أن يحتاج فيه إلى دليل، ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ لآيات لقوم يبصرون إبصار اعتبار ويسمعون سماع تأمل وإدكار، ولكنه حذف «يبصرون» لدلالة ‏{‏مبصراً‏}‏ عليه، ويزيد ذلك وضوحاً وحسناً كون السياق لنفي الشركاء، فهو إشارة إلى أنها لا تسمع ولا تبصر أصلاً فكيف بالاعتبار والافتكار‏؟‏ فالذين عبدوهم أكمل حالاً منهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 73‏]‏

‏{‏قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏71‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏72‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

ولما لم يكن شبهة على ادعاء الولد لله سبحانه ولا لهم اطلاع عليه بوجه، ساق قوله‏:‏ ‏{‏قالوا اتخذ‏}‏ أي تكلف الأخذ بالتسبب على ما نعهد ‏{‏الله‏}‏ أي المسمى بهذا الاسم الذي يقتضي تسميته به أن يكون له الكمال كله، فلا يكون محتاجاً إلى شيء بوجه ‏{‏ولداً‏}‏ مساق البيان لقوله ‏{‏إن يتبعون إلاّ الظن‏}‏ وهذا صالح لأن يكون تعجيباً ممن ادعى في الملائكة أو عزير أو المسيح وغيرهم‏.‏

ولما عجب منهم في ذلك لمنافاته بما يدل عليه من النقص لما ثبت لله تعالى من الكمال كما مرّ، نزه نفسه الشريفة عنه فقال‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ أي تنزه عن كل شائبة نقص التنزه كله؛ ثم علل تنزهه عنه وبينه بقوله‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏الغني‏}‏ أي عن الولد وغيره لأنه فرد منزه عن الإبعاض والأجزاء والمجانسة؛ ثم بين غناه بقوله‏:‏ ‏{‏له ما في السماوات‏}‏ ولما كان سياق الاستدلال يقتضي التأكيد، أعاد «ما» فقال‏:‏ ‏{‏وما في الأرض‏}‏ من صامت وناطق، فهو غني بالملك ذلك عن أن يكون شيء منه ولداً له لأن الولد لا يملك، وعدم ملكه نقص مناف للغنى، ولعله عبر ب «ما» لأن الغني محط نظره الصامت مع شمولها للناطق‏.‏

ولما بين بالبرهان القاطع والدليل الباهر الساطع امتناع أن يكون له ولد، بكتهم بنفي أن يكون لهم بذلك نوع حجة فقال‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏عندكم‏}‏ وأغرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من سلطان‏}‏ أي حجة ‏{‏بهذا‏}‏ أي الاتخاذ، وسميت الحجة سلطاناً لاعتلاء يد المتمسك بها؛ ثم زادهم بها تبكيتاً بالإنكار عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏أتقولون‏}‏ أي على سبيل التكرير ‏{‏على الله‏}‏ أي الملك الأعظم على سبيل الاستعلاء ‏{‏ما لا تعلمون‏}‏ لأن ما لا برهان عليه في الأصول فهو جهل، فكيف بما قام الدليل على خلافه؛ والسلطان‏:‏ البرهان القاهر لأنه يتسلط به على صحة الأمر ويقهر به الخصم، وأصله القاهر للرعية بعقد الولاية‏.‏

ولما قدم أن قولهم كذب، وبكتهم عليه مواجهة، أتبعه بما يشير إلى أنهم أهل للإعراض في سياق مهدد على الكذب، فقال معرضاً عن خطابهم مؤكداً لأن اجتراءهم على ذلك دال على التكذيب بالمؤاخذة عليه‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي للذين ادعوا الولد لله وحرموا ما رزقهم من السائبة ونحوها ‏{‏إن الذين يفترون‏}‏ أي يتعمدون ‏{‏على الله‏}‏ أي الملك الأعلى ‏{‏الكذب لا يفلحون‏}‏ ثم بين عدم الفلاح بقوله‏:‏ ‏{‏متاع‏}‏ أي لهم، ونكره إشارة إلى قلته كما قال في الآية الأخرى ‏{‏متاع قليل‏}‏ وأكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏في الدنيا‏}‏ لأنها دار ارتحال، وما كان إلى زوال وتلاش واضمحلال كان قليلاً وإن تباعد مدّه وتطاولت مُدَده وجل مَدَده، وزاد على الحصر عَدده؛ وبين حالهم بعد النقلة بقوله‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ أي بعد ذلك الإملاء لهم وإن طال ‏{‏إلينا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة لا إلى غيرنا ‏{‏مرجعهم‏}‏ بالموت فنذيقهم عذاباً شديداً لكنه دون عذاب الآخرة ‏{‏ثم نذيقهم‏}‏ يوم القيامة ‏{‏العذاب الشديد بما‏}‏ أي بسبب ما ‏{‏كانوا‏}‏ أي كوناً هو جبلة لهم ‏{‏يكفرون‏}‏ ووجب كسر «إن» بعد القول لأنه حكاية عما يستأنف الإخبار به كما فعل في لام الابتداء لذلك‏.‏

ولما تقدم سؤالهم الإتيان بما يقترحون من الآيات، ومضت الإشارة إلى أن تسييرهم في الفلك من أعظم الآيات وإن كانوا لإلفهم له قد نسوا ذلك، وتناسجت الآي كما سلف إلى أن بين هذا أن متاع المفترين الكذبَ قليل تخويفاً من شديد السطوة وعظيم الأخذ، عقب ذلك بقصة قوم نوح لأنهم كانوا أطول الأمم الظالمة مدة وأكثرهم عدة، ثم أخذوا أشد أخذ فزالت آثارهم وانطمست أعلامهم ومنارهم فصاروا كأنهم لم يكونوا أصلاً ولا أظهروا قولاً ولا فعلاً، فقال تعالى عاطفاً على قوله ‏{‏قل إن الذين‏}‏ مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لأن المصيبة إذا عمت خفت، وتخويفاً للكفار ليرجعوا أو يخفوا من أذاهم‏:‏ ‏{‏واتل‏}‏ أي اقرأ قراءة متتابعة مستعلية ‏{‏عليهم نبأ نوح‏}‏ أي خبره العظيم مذكراً بأول كون الفلك وأنه كان إذ ذاك آية غريبة خارقة للعادة عجيبة، وأن قوم نوح لم ينفعهم ذلك ولا أغنى عنهم افتراءهم وعنادهم مع تطاول الأمد وتباعد المدد، بل صار أمرهم إلى زوال، وأخذ عنيف ونكال ‏{‏كأن لم يلبثوا إلاّ ساعة من النهار يتعارفون بينهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 45‏]‏ مع نجاة رسولهم وخيبة مأمولهم، قد لبث فيهم ما لم يلبثه نبي في قولهم ولا رسول في أمته ألف سنة إلاّ خمسبن عاماً، وما آمن معه إلاّ قليل ‏{‏إذ قال لقومه‏}‏ أي بعد أن دعاهم إلى الله فأطال دعاءهم ومتعوا في الدنيا كثيراً وأملى لهم طويلاً فما زادهم ذلك إلا نفوراً ‏{‏يا قوم‏}‏ أي يا من يعز عليّ خلافهم ويشق عليّ ما يسوءهم لتهاونهم بحق ربهم مع قوتهم على الطاعة ‏{‏إن كان كبر‏}‏ أي شق وعظم مشقة صارت جبلة ‏{‏عليكم‏}‏ ولما كانت عادة الوعاظ والخطباء أن يكونوا حال الخطبة واقفين، قال‏:‏ ‏{‏مقامي‏}‏ أي قيامي، ولعله خص هذا المصدر لصلاحيته لموضع القيام وزمانه فيكون الإخبار بكراهته لأجل ما وقع فيه من القيام أدل على كراهة القيام ‏{‏وتذكيري‏}‏ أي بكم ‏{‏بآيات الله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام، فإن ذلك لا يصدني عن مجاهدتي بما يكبر عليكم من ذلك خوفاً منكم لأن الله أمرني به وأنا أخاف عذابه إن تركت، ولا أبالي بكراهيتكم لذلك خوف عاقبة قصدكم لي بالأذى ‏{‏فعلى‏}‏ أي فإني على ‏{‏الله‏}‏ أي الذي له العزة كلها وحده ‏{‏توكلت‏}‏ فإقامة ذلك المقام الجزاء من إطلاق السبب- الذي هو التوكل- على المسبب- الذي هو انتفاء الخوف- مجازاً مرسلاً، إعلاماً لهم بعظمة الله وحقارتهم بسبب أنهم أعرضوا عن الآيات وهم يعرفونها، بما دل عليه التعبير بالتذكير، فدل ذلك على عنادهم بالباطل، والمبطل لا يخشى أمره لأن الباطل لا ثبات له، ودل على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فأجمعوا أمركم‏}‏ أي في أذاي بالإهلاك وغيره، أعزموا عليه وانووه واجزموا به، والواو بمعنى «مع» في قوله‏:‏ ‏{‏وشركآءكم‏}‏ ليدل على أنه لا يخافهم وإن كانوا شركاءهم أحياء كائنين من كانوا وكانت كلمتهم واحدة لا فرقة فيها بوجه‏.‏

ولما كان الذي يتستر بالأمور بما يفوته بعض المقاصد لاشتراط التستر، أخبرهم أنه لا يمانعهم سواء أبدوا أو أخفوا فقال‏:‏ ‏{‏ثم لا يكن‏}‏ أي بعد التأبي وطول زمان المجاوزة في المشاورة ‏{‏أمركم‏}‏ أي الذي تقصدونه بي ‏{‏عليكم غمة‏}‏ أي خفياً يستتر عليكم شيء منه بسبب ستر ذلك عني لئلا أسعى في معارضتكم، فلا تفعلوا ذلك بل جاهروني به مجاهرة فإنه لا معارضة لي بغير الله الذي يستوي عنده السر والعلانية؛ والتعبير ب ‏{‏ثم‏}‏ إشارة إلى التأني وإتقان الأمر للأمان من معارضته بشيء من حول منه أو قوة ‏{‏ثم اقضوا‏}‏ ما تريدون، أي بتوه بتة المقضي إليه واصلاً ‏{‏إلي‏}‏‏.‏

ولما كان ذلك ظاهراً في الإنجاز وليس صريحاً، صرح به في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تنظرون*‏}‏ أي ساعة ما، وكل ذلك لإظهار قلة المبالاة بهم للاعتماد على الله لأنه لا يعجزه شيء ومعبوداتهم لا تغني شيئاً؛ ثم سبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فإن توليتم‏}‏ أي كلفتم أنفسكم الإعراض عن الحق بعد عجزكم عن إهلاكي ولم ينفعكم علمكم بأن الذي منعني- وأنا وحدي- منكم وأنتم ملء الأرض له العزة جميعاً وأن من أوليائه الذين تقدم وعده الصادق بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ‏{‏فما‏}‏ أي فلم يكن توليكم عن تفريط مني لأني سقت الأمر على ما يحب، ما ‏{‏سألتكم‏}‏ أي ساعة من الدهر، وأغرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من أجر‏}‏ أي على دعائي لكم يفوتني بتوليكم ولا تتهموني به في دعائكم‏.‏

ولما كان من المحال أن يفعل عاقل شيئاً لا لغرض، بين غرضه بقوله مستأنفاً‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏أجري إلا على الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال؛ ثم عطف عليه غرضاً آخر وهو اتباع الأمر خوفاً من حصول الضر فقال‏:‏ ‏{‏وأمرت‏}‏ أي من الملك الأعلى الذي لا أمر لغيره، وبناه للمفعول للعلم بأنه هو الآمر وليزيد في الترغيب في المأمور به وتغطية بجعله عمدة الكلام بإقامته مقام الفاعل فقال ‏{‏أن أكون‏}‏ أي كوناً أتخلق به فلا أنفك عنه؛ ولما كان في مقام الاعتذار عن مفاجأته لهم بالإنذار، عبر بالإسلام الذي هو الأفعال الظاهرة فقال‏:‏ ‏{‏من المسلمين*‏}‏ أي الراسخين في صفة الانقياد بغاية الإخلاص، لي ما لهم وعليّ ما عليهم، أنا وهم في الإسلام سواء، لا مرية لي فيه أتهم بها، أن أستسلم لكل ما يصيبني في الله، لا يردني ذلك عن إنفاذ أمره، والحاصل أنه لم يكن بدعائه إياهم في موضع تهمة، لا سألهم غرضاً دنيوياً يزيده إن أقبلوا ولا ينقصه إن أدبروا، ولا أتى بشيء من عند نفسه ليظن أنه أخطأ فيه ولا سلك به مسلكاً يظن به استعباده إياهم في اتباعه، بل أعلمهم بأنه أول مؤتمر بما أمرهم به مستسلم لما دعاهم إليه ولكل ما يصيبه في الله، ولما لم يردهم كلامه هذا عن غيهم، سبب عنه قوله مخبراً بتماديهم‏:‏ ‏{‏فكذبوه‏}‏ أي ولم يزدهم شيء من هذه البراهين الساطعة والدلائل القاطعة إلا إدباراً، وكانوا في آخر المدة على مثل ما كانوا عليه من التكذيب ‏{‏فنجيناه‏}‏ أي تنجية عظيمة بما لنا من العظمة الباهرة بسبب امتثاله لأوامرنا وصدق اعتماده علينا ‏{‏ومن معه‏}‏ أي من العقلاء وغيرهم ‏{‏في الفلكِ‏}‏ كما وعدنا أولياءنا، وجعلنا ذلك آية للعالمين ‏{‏وجعلناهم‏}‏ أي على ضعفهم بما لنا من العظمة ‏{‏خلائف‏}‏ أي في الأرض بعد من أغرقناهم، فمن فعل في الطاعة فعلهم كان جديراً بأن نجازيه بما جازيناهم ‏{‏وأغرقنا‏}‏ أي بما لنا من كمال العزة ‏{‏الذين كذبوا‏}‏ أي مستخفين مستهينين ‏{‏بآياتنا‏}‏ كما توعدنا يفترون على الله الكذب‏.‏

ولما كان هذا أمراً باهراً يتعظ به من له بصيرة، سبب عنه أمر أعلى الخلق فهما بنظره إشارة إلى أنه لا يعتبر به حق الاعتبار غيره فقال‏:‏ ‏{‏فانظر‏}‏ وأشار إلى أنه أهل لأن يبحث عن شأنه بأداة الاستفهام، وزاد الأمر عظمة بذكر الكون فقال‏:‏ ‏{‏كيف كان‏}‏ أي كوناً كان كأنه جبلة ‏{‏عاقبة‏}‏ أي آخر أمر ‏{‏المنذرين*‏}‏ أي الغريقين في هذا الوصف وهم الذين أنذرتهم الرسل، فلم يكونوا أهلاً للبشارة لأنهم لم يؤمنوا لنعلم أن من ننذرهم كذلك، لا ينفع من أردنا شقاوته منهم إنزال آية ولا إيضاح حجة؛ والتوكل‏:‏ تعمد جعل الأمر إلى من يدبره للتقدير في تدبيره؛ والغمة‏:‏ ضيق الأمر الذي يوجب الحزن؛ والتولي‏:‏ الذهاب عن الشيء؛ والأجر‏:‏ النفع المستحق بالعمل؛ والإسلام الاستسلام لأمر الله بطاعته بأنها خير ما يكتسبه العباد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 78‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏74‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏75‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏76‏)‏ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ‏(‏77‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

ولما لم يكن في قصص من بينه وبين موسى عليهم السلام مما يناسب مقصود هذه السورة إلا ما شاركوا فيه قوم نوح من أنهم لم تنفع الآيات من أريدت شقاوته منهم، ذكره سبحانه طاوياً لما عداه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ أي بعد مدة طويلة ‏{‏بعثنا‏}‏ أي على عظمتنا؛ ولما كان البعث لم يستغرق زمان البعد، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعده‏}‏ أي قوم نوح ‏{‏رسلاً‏}‏ كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام‏.‏

ولما كان ربما ظن أن قوم الإنسان لا يكذبونه، وإن كذبوه لم يتمادوا على التكذيب لا سيما إن أتاهم بما يقترحونه من الخوارق قال‏:‏ ‏{‏إلى قومهم‏}‏ أي ففاجأهم قومهم بالتكذيب ‏{‏فجاءوهم‏}‏ أي فتسبب عن استنادهم إلى عظمتنا أن جاؤوهم ‏{‏بالبينات‏}‏ ليزول تكذيبهم فيؤمنوا ‏{‏فما‏}‏ أي فتسبب عن ذلك ضد ما أمروا به وقامت دلائله وهو أنهم ما ‏{‏كانوا‏}‏ أي بوجه من وجوه الكون ‏{‏ليؤمنوا‏}‏ أي مقرين ‏{‏بما كذبوا‏}‏ أي مستهينين ‏{‏به‏}‏ أول ما جاؤوهم‏.‏ ولما كان تكذيبهم في بعض الزمن الماضي، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي قبل مجيء البينات لأنا طبعنا على قلوبهم؛ قال أبو حيان‏:‏ وجاء النفي مصحوباً بلام الحجود ليدل على أن إيمانهم في حيز الاستحالة والامتناع- انتهى‏.‏ ويجوز أن يكون التقدير‏:‏ من قبل مجيء الرسل إليهم، ويكون التكذيب أسند إليهم لأن أباهم كذبوا لما بدلوا ما كان عندهم من الدين الصحيح الذي أتتهم به الرسل ورضوا هم بما أحدث آباؤهم استحساناً له، أو لأنه كان بين أظهرهم بقايا على بقايا مما شرعته الرسل فكانوا يعظونهم فيما يبتدعون فلا يعون ولا يسمعون كما كان قس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وغيرهم قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم، لكن المعنى الأول أولى- والله أعلم‏.‏

ولما قرر عدم انتفاعهم بالآيات، بنى ما يليه على سؤاله من لعله يقول‏:‏ هل استمر الخلق فيمن بعدهم‏؟‏ فكأنه قيل‏:‏ نعم‏!‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ما طبعنا على قلوبهم هذا الطبع العظيم ‏{‏نطبع‏}‏ أي نوجد الطبع ونجدده متى شئنا بما لنا من العظمة ‏{‏على قلوب المعتدين*‏}‏ في كل زمن لكل من تعمد العدو فيما لا يحل له، وهذا كما أتى موسى عليه السلام إلى فرعون فدعاه إلى الله فكذبه فأخبره أن معه آية تصدقه فقال له‏:‏ إن كنت جئت بآية فائت بها إن كنت من الصادقين، فلما أتاه بها استمرعلى تكذيبه وكان كلما رأى آية ازداد تكذيباً، وكان فرعون قد قوي ملكه وعظم سلطانه وعلا في كبريائه وطال تجبره على الضعفاء، فطمست أمواله وآثاره، وبقيت أحاديثه وأخباره، ولهذا أفصح سبحانه بقصته فقال‏:‏ دالاً على الطبع‏:‏ ‏{‏ثم بعثنا‏}‏ أي وبعد زمن طويل من إهلاكنا إياهم بعثنا، ولعدم استغراق زمن البعد أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعدهم‏}‏ أي من بعد أولئك الرسل ‏{‏موسى و‏}‏ كذا بعثنا ‏{‏هاورن‏}‏ تأييداً له لأن اتفاق اثنين أقوى لما يقررانه وأوكد لما يذكرانه؛ ولما استقر في الأذهان بما مضى أن ديدن الأمم تكذيب من هو منهم حداً له ونفاسة عليه‏.‏

كان ربما ظن أن الرسول لو أتى غير قومه كان الأمر على غير ذلك، فبين أن الحال واحد في القريب والغريب، فقال مقدماً لقوله‏:‏ ‏{‏إلى فرعون وملئه‏}‏ أي الأشراف من قومه، فإن الأطراف تبع لهم ‏{‏بآياتنا‏}‏ أي التي لا تكتنه عظمتها لنسبتها إلينا، فطبعنا على قلوبهم ‏{‏فاستكبروا‏}‏ أي طلبوا الكبر على قبول الآيات وأوجدوا ما يدل عليه من الرد بسبب انبعاثه إليهم عقب ذلك ‏{‏وكانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏قوماً مجرمين*‏}‏ أي طبعهم قطع ما ينبغي وصله ووصل ما ينبغي قطعه، فلذلك اجترؤوا على الاستكبار مع ما فيها أيضاً من شديد المناسبة لما تقدم من قول الكافرين ‏{‏هذا سحر مبين‏}‏ في نسبة موسى عليه السلام إليه وبيان حقيقة السحر في زواله وخيبته متعاطية لإفساده إلى غير ذلك من الأسرار التي تدق عن الأفكار، هذا إلى ما ينظم إليه من مناسبة ما بين إهلاك القبط وقوم نوح بآية الغرق، وأنه لم ينفع أحداً من الفريقين معاينة الآيات ومشاهدة الدلالات البينات، بل ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه بعد تلك المعجزات الباهرة والبراهين الظاهرة، ثم اتبعهم فرعون بعد أن كانت انحلت عن حبسهم عراه، وتلاشت من تجبره قواه، وشاهد من الضربات ما يهد الجبال، ودخل في طلبهم البحر بحزات لا يقرب ساحتها الأبطال، لما قدره عليه ذو الجلال، ولم يؤمن حتى أتاه البأس حيث يفوت الإيمان بالغيب الذي هو شرط الإيمان، فلم ينفعه إيمانه مع اجتهاده فيه وتكريره لفوات شرطه إجابة لدعوة موسى عليه السلام، ثم إن بني إسرائيل كانوا قبل مجيء موسى عليه السلام على منهاج واحد‏.‏ فما اختلفوا إلا بعد مجيء العلم إليهم وبيان الطريق واضحة لديهم، ولهذا المراد ذكر هنا هارون عليه السلام لأن من أعظم مقاصد السورة المنع من طلب الآيات لمن بعد الإيمان عند الإتيان بها، إشارة إلى أن القول من الاثنين أوكد، ومع ذلك فلم يصدق من حكم القدير بشقاوته، كل ذلك حثاً على الرضا والتسليم، ووكل الأمر إلى الرب الحكيم، فمهما أمر به قبل، وما أعرض عنه ترك السؤال فيه رجاء تدبيره بأحسن التدبير وتقديره ألطف المقادير؛ ولما أخبر سبحانه باستكبارهم، بين أنه تسبب عنه طعنهم في معجزاته من غير تأمل، بل بغاية المبادرة والإسراع بما أشعرت به الفاء والسياق، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم‏}‏ أي فرعون وملؤه ‏{‏الحق‏}‏ أي البالغ في الحقية، ثم زاد في عظمته بقوله‏:‏ ‏{‏من عندنا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة التي عرفوا بها أنه منا، لا من الرسولين ‏{‏قالوا‏}‏ أي غير متأملين له ولا ناظرين في أمره بل عناداً ودلالة على استكبارهم مؤكدين لما علموا من تصديق الناس به ‏{‏إن هذا لسحر مبين*‏}‏ كما قال الناس الذين أخبر عنهم سبحانه في أول السورة في هذا القرآن وما إبانه من البعث‏.‏

فلما قالوا كان كأنه قيل‏:‏ فماذا أجابهم‏؟‏ فأخبر أنه أنكر عليهم، بقوله‏:‏ ‏{‏قال موسى‏}‏ ولما كان تكريرهم لذلك القول أجدر بالإنكار، عبر بالمضارع الدال على أنهم كرروه لينسخوا ما ثبت في قلوب الناس من عظمته ‏{‏أتقولون للحق‏}‏ ونبه على أنهم بادروا إلى التكذيب من غير نظر ولا توقف بقوله‏:‏ ‏{‏لما جاءكم‏}‏ أي هذا القول الذي قلتموه وهو أنه سحر، فإن القول يطلق على المكروه، تقول‏:‏ فلان قال في فلان، أي ذمه، وفلان يخاف القالة، وبين الناس تقاول؛ ثم كرر الإنكار بقوله‏:‏ ‏{‏أسحر هذا‏}‏ أي الذي هو في غاية الثبات والمخالفة للسحر في جميع الصفات حتى تقولون فيه ذلك‏.‏ فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر القول في الأول دال على حذف مثله في الثاني، وذكر السحر الثاني دال على حذف مثله في الأول‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ أتقولون هذا والحال أنكم قد رأيتم فلاحه، بني عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولا يفلح‏}‏ أي يظفر بما يريد في وقت من الأوقات ‏{‏الساحرون*‏}‏ أي العريقون فيه لأن حاصل أمرهم تخييل وتمويه في الأباطيل، فالظفر بعيد عنهم، ويجوز أن تجعل هذه الجملة معطوفه على قوله‏:‏ ‏{‏أسحر هذا‏}‏ لأنه إنكاري بمعنى النفي، فلما أنكر عليهم عليه السلام ما ظهر به الفرق الجلي بين ما أتى به في كونه أثبت الأشياء وبين السحر، لأنه لا ثبات له أصلاً، عدلوا عن جوابه إلى الإخبار بما يتضمن أنهم لا يقرون بحقيته لأنه يلزم عن ذلك ترك ما هم عليه من العلو وهم لا يتركونه، وأوهموا الضعفاء أن مراده عليه السلام الاستكبار معللين لاستكبارهم عن اتباعه بما دل على أنهم لا مانع أنهم منه إلا الكبر، فقال تعالى حكاية عنهم‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي منكرين عليه معللين بأمرين‏:‏ التقليد، والحرص على الرئاسة‏.‏

ولما كان هو الأصل في الرسالة‏.‏ وكان أخوه له تبعاً، وحدوا الضمير فقالوا‏:‏ ‏{‏أجئتنا‏}‏ أي أنت يا موسى ‏{‏لتلفتنا‏}‏ أي لتقتلنا وتصرفنا ‏{‏عما وجدنا عليه‏}‏ وقالوا مستندين إلى التقليد غير مستحيين من ترك الدليل ‏{‏آباءنا‏}‏ من عبادة الأصنام والقول بالطبيعة لنقل نحن بذلك ‏{‏وتكون لكما‏}‏ أي لك أنت ولأخيك دوننا ‏{‏الكبرياء‏}‏ أي بالملك ‏{‏في الأرض‏}‏ أي أرض مصر التي هي- لما فيها من المنافع- كأنها الأرض كلها ‏{‏وما‏}‏ أي وقالوا أيضاً‏:‏ ما ‏{‏نحن لكما‏}‏ وبالغوا في النفي وغلب عليهم الدهش فعبروا بما دل على أنهم غلبهم الأمر فعرفوا أنه صدق ولم يذعنوا فقالوا‏:‏ ‏{‏بمؤمنين*‏}‏ أي عريقين في الإيمان، فهو عطف على ‏{‏أجئتنا‏}‏ أي قالوا ذاك وقالوا هذا، أو يكون عطفاً على نحو‏:‏ فما نحن بموصليك إلى هذا الغرض، أفردوه أولاً بالإنكار عليه في المجيء ليضعف ويكف أخوه عن مساعدته، وأشركوه معه ثانياً تأكيداً لذلك الغرض وقطعاً لطمعه؛ والبعث‏:‏ الإطلاق في أمر يمضي فيه، وهو خلاف الإطلاق من عقال؛ والملأ‏:‏ الجماعة الذين هم وجوه القبيلة، لأن هيبتهم تملأ الصدور عند منظرهم؛ والاستكبار‏:‏ طلب الكبر من غير استحقاق؛ والمجرم من اكتسب سيئة كبيرة، من جرم التمر- إذا قطعه، فالجرم يوجب قطع الخير عن صاحبه؛ والسحر‏:‏ إيهام المعجزة على طريق الجيلة، ويشبه به البيان في خفاء السبب؛ والحق‏:‏ ما يجب الحمد عليه ويشتد دعاء الحكمة إليه ويعظم النفع به والضرر بتركه؛ والكبرياء‏:‏ استحقاق صفة الكبر في أعلى المراتب، وهي صفة مدح لله وذم للعباد لأنها منافية لصفة العبودية‏.‏